ليالى تركستان (6)

ليالى تركستان (6)

 
 

تركت "نجمة الليل" ورائي، وتطلعت إلى القمر وكان بدرا، نعم كان يغلفه السحاب المتكاثر، لكني كنت أقرأ في وجه القمر الابتسامة الخالدة التي ظلت تتسم بالهدوء والوقار منذ ألوف السنين أو أكثر، أنا في ضوئك يا قمري المنير يا من تتحدى الظلمات أمضي وسط المراعي، قاصدا قيادة الثوار... وأنا أظلم الثوار إذ أذكر واحدا او مائة أو ألفا... إنهم كثيرون.. أمثال الجنرال محمود محيطي والجنرال العظيم عثمان باتور والجنرال شريف خان والجنرال عثمان أوراز.. وهناك على القمم التقت الزمرة-العيون التي انظلقت إلى كل المقاطعات والمدن-ونشرت تقاريرها عن الحال السيئة التي يرزح تحت عبئها شعبنا المناضل في تركستان.. وفي أواخر العام انطلق السيل العارم..

قال خوجة نياز:

-                 سنلتقي في أورومجي حيث قصر الحاكم العام الصيني...

وكنا نعرلم أن المرحلة طويلة، وأن دونها دماء وأهوال، أدركت ذلك من كلمات الجنرال محمود محيطي الذي سمعته يقول:

-                 سوف تصاحبنا العناية الإلهية...

قلت:

- أيها الآباء العظام إن الأحداث قد أتلفت بعض شبابنا..

ضحك خوجة نياز وقال:

-                 عندما تشرق شمس الحقيقة فإن هذه الخزعبلات كلها تذوب..

ونظر صوب القمم المتوجة بالثلوج وقال:

-     إرادة الله أقوى من أي فلسفة أرضية، إن ما تحسبونه انتصارا أبديا إنما هو بريق مؤقت سرعان ما ينطفء.. وفي كل عصر من عصور التاريخ يتحدى بعض المغرورين كلمات الله وينالون بعض النصر..لكن هيهات.. لقد قال الله في كتابه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)

-                 انطلقوا بعون الله ولا تخافوا أحدا إلا الله..

ظاهرة غريبة أدركتها في شعب تركستان، هذا الشعب الذي بدا نائما مستسلما جريحا ينزف الحسرات واللوعة، ويعشش في قلبه اليأس، هذا الشعب عندما رأى جموعنا تزحف، إذ به ينفض الكسل والوهن عن كاهله، ويفتح عينيه في فرحة غامرة وينطلق معنا.. يا إلهي! أين الصينيون؟ إنني أراهم يفرون مذعورين، وكثيرون منهم يعتنقون الإسلامويحاربون إلى جوارنا وتحررت الفتيات اللاتيكنا أو ما زلن في عصمة الكفرة من الجنود الصينيين.. وخرجنا يشاركن في المعركة..

في إحدى المعارك وجدتها تمسك برجل ضخم الجثة والناس من حولها يصفقون.. من هذه المرأة؟ غنها امرأة من "كاشغر" اسمها "خاتون".. وضابط صيني أمسكت المرأة بالضابط وربطته في جذع شجرة ضخمة.. أخذ يدور حول الشجرة كالثور الذبيح.. وهي تشوي ظهره بالسياط...

-     قلت لي: يا خاتون.. أنت لي.. ولن تستطيع أي إله أن ينقذك من بين يدي.. سقتني إلى كوخ حقير.. أتذكر؟ أخبرك ألف مرة.. إني أكرهك.. وأكرهك.. ولن تنال مني شيئا.. وأكدت لك أن الله أقوى مني ومنك.. وتركتني أيها الملعون عارية.. أحضرت رجالك السكارى يتفرجون على امرأة مسكينة عارية مكتوفة اليدين.. وكنت أبكي وأتطلع إلى السماء وهي تمطر.. دعوت الله من أعماقي.. سخرت مني وقلت لي.. الله لن يسمعك.. الموجود هو أنا.. الآن أين أنت يا صن لي؟ .. انظر على الرجال القادمين من كل صوب وحدب.. وتطلع إلى الرايات التي تخفق.. هل عرفت الله؟ .. تكلم.. آه.. إنك تسجد الآن.. تقبل التراب.. تستجير بالإله الذي أنكرته.. هل أنت رجل؟ .. أعرف أنك حقير تخاف الموت.. لكنك أيها الوغد جرحت قلبي.. وجرحت جسدي.. والمرأة التي تجرح عفتها قهرا في شرعنالا عقوبة للجاني إلا الموت..

ونظر خوجة نياز إلى المشهد المثير وقال:

-                 يبدو أن المرأة جنت..

وقدم أحد رجال "كاشغر" وقال:

-                 "كاشغر" كلها تعرف قصتها..

-                 لا بد أنها قاست طويلا..

-                 هي من بيت عريق يا سيدي..

-                 يبدو ذلك..

-     والضابط كان لا يحلو له العبث إلا ببنات الأسر الفاضلة.. لقد قتل عددا كبيرا من كبار العلماء والمتدينين..

وتقدم خوجة نياز إلى حيث الضابط المربوط:

-                 ماذا فعلت؟؟

نظر الأسير بعيني متعبين وقال:

-                 كنت أمارس بالأمس حقوق المنتصر..

-                 وما هي حقوق المنتصر؟..

ولما لم يستطع أن يجيب أردف خوجة نياز:

-                 أن يدوس القيم العريقة؟

-                 لقد أحببتها أردتها لنفسي.

-                 ألهذا جئت لتحارب؟

-                 كنت أفعل ما يفعلون والمسئول هم القادة.

قال خوجة نياز للواقفين:

انظروا إليه.. يريد منا أن نحاكم من أتوا به..

ثم التفت إليه قائلا:

-                 وأمام الله نقف فرادى (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:95)

ألم تسمع بهذه الآية؟ بالطبع لا. ونحن لن نحاسبك على جرم قادتك.. بل بما اقترفت يداك..

-                 انهار الضابط وهتف:

-                 لا أريد أن أموت...

قهقهت خاتون قائلة وهي تخاطب خوجة نياز:

-     سيدي الرئيس.. كان ضحاياه يطلبون منه الرحمة.. سمعت أحد الشباب الشرفاء يهتف أمامه ذات مساء "لا أريد أن أموت" .. نفس الكلمات.. لكنه كان وقحا..

وواصلت الكلام وهي متجهة إليه:

-     أتنكر؟ كنت وقحا.. ورفعت مسدسك بكل هدوء وأطلقت منه مجموعة من القذائف.. ثم أخذت خاتون..

تدور على السامعين وتقول بصوت ملتاع حزين:

- كان الضحية يتلوى.. ويتأوه.. عيناه تصرخ باللهفة للحياة.. والكلب الحقير يشرب فنجانا من الشاي.. ويدخن في تلذذ.. ويحكم المعطف الواقي من البرد على جسده.. ويضحك.. ثم يجلسني مرغمة على فخذيه.. ويداعب خدي بخنجر.. تصوروا.. تصوروا ... انظروا إلى وجهي إن آثار الجروح القديمة لم تزل بوجهي.. وكان وجهه يشرق بالسعادة وهو يمتص قطرات من دمائي..

ثم صرخت في نوبة حادة تشبه الجنون:

-                 محكمة..

وساد الصمت، وتعلقت الأبصار بالمرأة الدامعة المتوترة، وبالضابط المهزوم المربوط في الشجرة، وفي لحظات شق الصفوف شيخ يربو على الستين وفي يده سيف قديم، ولم نكد نفيق حتى كان سيفه قد أطاح برأس الضابط.. وساد هرج ومرج، بينما صاح العجوز:

-                 أنا أبوها.

وتعلقت خاتون بأبيها، وأمر نياز رجاله بالانصراف، واحتدمت المعارك حول "كاشغر" وغيرها من المدن وأخذ الثوار يمشطون المناطق المحررة من كل خائن أو محتل..

عشرات القصص المحزنة تروى في كل مكان.. كان خوجة نياز يغمغم: "أنا أبوها".... وأخذ يكرر هاتين الكلمتين في تمعن، كان يشعر أنه هو الآخر أبوها، وكان يؤكد للجميع أن تركستان التي تعاني الأهوال في حاجة دائمة إلى أب مسلم بار، وإلى أبناء شرفاء يدافعون عن شرفها وكيانها، وينتقمون لجراحها البدنية والنفسية.

وتذكرت الملعونة "نجمة الليل" .. ليتها كانت مثل خاتون...

لكن لماذا أفكر الآن في "نجمة الليل" أنا لست أباها.. وهي ليست كخاتون.. إنها مجرد إفرازات سامة لهذه الظروف العصيبة.. وفي كل بستان جميل قد تنبت أشواك تدمي الأنامل، وقد تتخفى أفعى بين الورود... و"نجمة الليل"  شيء شبيه بالهزيل الحقير الضابط.. ويجب أن تكون حربنا ضده وجيشه.. وضد الإفرازات السمة القاتلة التي تشبه "نجمة الليل" وأمثالها...

وساد السكون شتى الأنحاء، وأعلنت الجمهورية الجديدة في "كاشغر" واختير خوجة نياز رئيسا للجمهورية التركستانية كما اختير رجل صالح آخر كان مهاجرا إلى القاهرة اسمه مولانا ثابت رئيسا للحكومة التي تم تأليفها، وقد تكون مجلس للنواب والوزراء... وتحررت أراضينا تقريبا.. ةبعد فترة وجيزة اتجهت النية لمحاصرة مدينة أورومجي وهي مقر الحاكم الصيني، ومعقله الأخير..

أما أنا فأرسلت في مهة تتعلق بتجميع القوات وتوزيع الأوامر إلى قومول.. كنت سعيدا لذهابي منتصرا إلى قومول.. ما أروع أن يعود الجندي منتصرا إلى مسقط رأسه، إنه يمضي مرفوع الرأس، ينظر إلى الناس في حب ومودة، يشعر أن رابطة قوية تربطهم وبينه، وهو نبض من قلوبهم.. جزء من أرواحهم وآمالهم، وأفراحعم وآلامهم النصر العظيم-كالألم العظيم- يوحد القلوب، ويصهر الآمال في بوتقة واحدة.

الفارس العائد يدق أرض الشارع في فخر.. ينظر إلى الوجوه الجميلة المستبشرة وهي تطل من النوافذ، وإلى الأطفال الذين لوحت بشرتهم البيضاء ويجيئون في هدوء وسعادة..

الفارس العائد يشعر أنه قد أدى بعض الواجب، وهو يقتحم الحصون بالأمس، ويطلق مدفعه القديم، ويطهر المواقع من دنس الصينيين، وأنا الفارس العائد... يا لها من أغنية حلوة.. أشد ما كان يثلج صدري أن أرى الغزاة ينهارون ويموت كل منطق لديهم.. ويذكرون الله على الفور.. أنا واثق أنهم لم يكونوا يكذبون.. لقد انجابت الغشاوة عن أعينهم فعادوا بفطرتهم – وقت الكرب - إلى الله .. الحقيقة الأولى الأزلية التي لا زيف فيها..

وسرت... وسرت.. وأنا أدق الأرض بحذا جديد.. سمعت من خلفي يهتف:

-                 ها قد عدت مرة أخرى يا مصطفى مراد حضرت.. أقسم أنك جئت تبحث عنها..

ونظرت خلفي فإذا بمنصور درغا.. كان يربط ساعده الأيمن بضمادة كبيرة، كما كان رأسه هي الأخرى مربوطة بضمادة صغيرة أخرى وهتفت في انشراح:

-                 كدت لا أعرفك..

وتعانقنا، بينما أخذ منصور درغا يقول: "قضيت فترة من الزمن في المستشفى، استخرجوا من ذراعي رصاصتين أو ثلاثة لا أدري.. وقالوا إن شللا مؤقتا سيصيب ساعدي، هذا ليس مهما.."

ثم أحنى رأسه وقال في حزن:

-     مات كثير من الرجال .. أصبحت أكره الموت.. أن يقتل الإنسان هذا شيء مريع.. لماذا كل هذه الحماقات؟ غير أني أحاول أن أنسى.. وأهز كتفي.. وأرفع مدفعي.. وأسدده عشوائيا صوب تجمع صيني أو روسي.. لا أريد أن أقتلهم وإنما أريد أن يكفزا عن قتلنا.. أريد لأسلحتهم أن تصمت.. الكارثة أن أسلحتهم لا تصمت إلا إذا صمتوا هم أولا.. وهذا محزن.. لا بد أن يموتوا لكي تكف أسلحتهم عن الجنون.. هيا نضحك.

قلت في دهشة:

-                 من؟؟

-                 "نجمة الليل..

-                 أنا أبوها..

وقهقه منصور عندما سمع كلمتي الأخيرة:

-                 أنت أبوها إذن؟

وشردت ببصري نحو القصر المهجور وقلت:

-     سمعت عجوزا في "كاشغر" يقول نفس الكلمات.. أنا أبوها.. وسمعت رئيسنا يقولها أيضا.. أنا أبوها.. وبلدنا يا منصور درغا في حاجة  ماسة إلى من يردد دائما : أنا أبوها.

ربت منصور على كتفي في حزم وقال:

-                 الحرب أرهقت أعصابك.

قلت في أسى:

-                 ربما.

-                 هل بلغتم أورومجي؟

-                 لقد حاصرناها ، والمعركة أوشكت على لانتهاء..

ضحك منصور درغا وقال:

-أما أنا فأقول إنه لا نهاية لعذابنا، ما دمنا بين كماشة : فكها الأولفي الصين، وفكها الثاني في روسيا، وكلاهما طامع فينا، يريد القضاء على إسلامنا.. لأن القضاء على الإسلام قضاء علينا.. سمعت فلاسفتهم يقولون ذلك.. وقرأت بعض نشراتهم السرية في بعض المدن التي قمنا باحتلالها وفروا منها قبل أن تتاح لهم الفرصة إحراق أوراقهم.. إن لدي مجموعة كبيرة من هذه الوثائق.. وسوف أحملها إلى خوجة نياز.. إنها حرب صليبية من نوع جديد..

وفجأة مال منصور على أذني هامسا:

-                 "نجمة الليل" .. هربت تحت جنح الظلام..

-                 كيف هربت؟

-                 كان الضابط الذي أخذها لنفسه أول الهاربين..

ضحك منصور وقال:

-     "نجمة الليل" .. طول عمرها أرض.. بل أوحال فوق أوحال.. أنت لا تعرفها كما أعرفها.. دعني أحدثك عنها لأول مرة أيها الصديق العزيز.. لقد كان لها من العشاق أكثر من عشرة.. كانت تجمع بين سائس الخيل وفتى المراعيوالجندي السمهري والعجوز الغني الذي يجود عليها بالجواهر.. أنت يا مصطفى ساذج أبله.. لا تحزن.. أنا لست مثلك تماما.. هذه الأيام السوداء جعلتني لا أثق إلا في شيء واحد.. في الإنسان الذي يحمل سلاحه ويحارب حتى الموت، هذا عصر فساد وضياع.. العيش فيه لعنة.. لقد ذهبت "نجمة الليل" إلى أورومجي... صدقني لو استطعنا أن ندخل أورومجي فستجدها تأتي إليك مستنجدة باكية، وتبدو للجميع كشهيدة للعسف والطغيان.. وسيصدق الناس دموعها وأنت أيضا سيرق قلبك..

وتحسست بمسدسي وقلت بصوت كالضجيج:

-                 الخائن يعدم..

ضحك منصور وقال وهو يهز كتفيه:

-                 لا تستطيع.. ألم تكن مرغمة على ما فعلت؟

-                 يجب أن نطهر أرضنا من الإفرازات السامة، والنباتات المتسلقة..

ابتسم منصور:

-     الإفرازات من صنع الله.. والنباتات المتسلقة موجودة دائما.. أما أنا فقد تزوجت غجرية من الجبل لا تعرف الكثير عن الحرب.. هيه.. وأنت؟

-                 سأبقى في قومول ليلة أو ليلتين، وسأعود إلى أورومجي..

-                 ولن أستطيع اللحاق بكم قبل أسبوعين..

وودعت منصورا، وسرت في طرقات قومول على غير هدى.