ليالى تركستان (15)

ليالى تركستان (15)

 
 

 
 

ساد لغط كبير في أنحاء البلاد أبان الاستعدادات للاستفتاء الكبير وتقرير المصير، ووجدت خلافات جذرية بين السياسيين والمفكرين، لكن ثقل الحلفاء أعطى التغييرات الداخلية اتجاهات خاصة ومؤتمرات معينة، فقد طفا على السطح أولئك البرجال الذين يمتدحون موقف الحلفاء ومدهم لتركستان الشرقية بالسلاح، كانت وحدة النضال تجميع قلوب الرجال على معنى واحد هو التحرير وعودة البلاد إلى حظيرة الإسلام والحرية، ونتيجة للمفاوضات التي أجريت تقرر تعيين جانجي القائد العام لشمال غرب الصين حاكما عاما لتركستان الشرقية، يعاونه ثلاثة من التركستانيين هم: أحمد جان، وبرهان شهيدي، (نائبا للحاكم) وليومون شون سكيرتيرا للحاكم العام، وكانت مهمة هؤلاء الأربعة هي العمل علىإجراء الانتخابات التي نصت عليها المعاهدة، وتهامس الناس، إن الرجال الثلاثة من أعوان الحلفاء، لقد باعوا انفسهم للشيطان، ولكن الدعاية حاولت أن تبعد عنهم هذه الشبهات، وحاولت تصويرهم بصورة الأبطال، القوميين الذين لعبوا أدوارا من أجل تحرير البلاد أبان محنتها، كما ساعدوا على مد الثوار بالسلاح مما جعل الثورة الشعبية تحقق أهداقها على صورة رائعة، ومع ذلك فقد أخذت البلاد تستعد للانتخابات، الآن رأي الشعب هو الرأي الحاسم، ولن يستطيع أحد أن يخدع هؤلاء الثور المحاربين الذين ظلوا سنوات طويلة يتصدون للعدو، ويحطمون من محاولاته المستمرة للقضاء على استقلال البلاد، وفي هذه الأثناء فوجئنا بالدولة الحليفة تحاول السيطرة على المقاطعات الثلاث: إيلي، وآلتاي وتشوشك، كن الرئيشس علي خان وقف وأعلن على الملأ:

-     إننا لن نفرط في ذرة من تراب الوطن، ولن نسمح بالتدخل في الولايات الثلاث.. ونحن على استعداد لاستئناف القتال ضدهم إذا لم ينسحبوا.

- وغرقت البلاد في جو من الدسائس والفتن.

تمتم الجنرال عثمان باتور.

 فرد الرئيس عي خان قائلا:

- العالم مشغول عنا بتضميد جراح البشرية.

- انتهت حربنا ولم تنته..

اقترب الرئيس علي خان من عثمان باتور وقال:

-                 يا جنرال ! عد إلى قواتك.. واستعد.

أدركت ما يعتمل في الأفق السياسي من تحركات مريبة، فقلت لزوجتي:

-                 نجمة الليل! لقد حان الرحيل..

-                 إلى أورومجي...

-                 لا أريد الذهاب إليها، إن ذكرياتها تؤلمني.

-                 إذن إلى قومول..

-                 وقومول هي الأخرى فيها افتراءات قديمة قد تجلب لي ولك المتاعب.

-                 أتوافقين على الذهاب إلى كاشغر؟

-                 لا بأس.

-                 وهناك ستعيشين مع الطفل، أما أنا فذاهب إلى الجبال.

-                 الأيام المريرة تعود، والصديق يريد الثمن.

وكان الرئيس علي خان يجلس في قصر الرئاسة مع زوجه وذويه والليل خارج القصر ساكن هادئ، والناس في بيوتهم يسمرون ويتحدثون عن الانتخابات المقبلة والعهد الجديد، وتدهم القصر فئة من الشبيبة حاملين السلاح، تعلن عيونهم وملامحهم عن الغدر والخيانة:

-                 ماذا تريدون؟

-                 قم معنا.

-                 أنسيتم أنني الرئيس؟

-                 نحن نعرف، وليس أمامنا من وسيلة سوى إطلاق الرصاص إذا لم ترافقنا.

اختفى الشيخ علي خان، وأخذ الناس يتهامسون، لماذا لم يعد يظهر كالعهد به في صلاة الجمعة، ولماذا لم يعد يلتق برفاق السلاح الذين قادهم بالأمس وأحرز معهم الانتصارات البارعة ضد الصينيين، وكثر اللغط والجدل حول مصير الشيخ علي، لكن بيانا رسميا يصدر عن الحكومة تعلن فيه أن الحاكم الرئيس علي خان سافر للاستشفاء...

وفؤجئ الناس بالاتخبارات من جديد، لقد اندسوا في الشوارع والمزارع والمصانع، وأخذوا يعتقلون المناوئين في الولايات الثلاثة التي طمع فيها الصديق، وصدر قرار بتعيين أحمد جان التركستاني المعروف رئيسا على المقاطعات الثلاثة: إيلي وآلتاي وتشوشك.

وعندما قدمت القوات لاحتلال آلتاي برز الجنرال عثمان باتور برجاله وتصدى للقوات وبدأت الحرب..

كان العدو أكثر عدد وعدة، ومن ثم لجأ الجنرال عثمان باتور إلى منطقة غوجن واعتصم بالجبال المنيعة هناك.

عقب المعركة جاء منصور درغا يعرج، نظرت إليه وبكيت:

-                 ماذا جرى؟

قال في سخرية مرة:

-     في كل مرة أفقد شيئا عزيزا علي، يوما ما فقدت ذراعي، ومرة فقد زوجتي الحبيبة، في أيام السلام القصيرة تزوجت أرملة في آلتاي، ترى ما مصيرها الآن؟ وقد أصيبت ساقي اليمنى برصاصة، مع أني ما زلت أحمل السلاح الذي عاونونا به... ما هذا العجب الذي نراه في دنيانا الغريبة؟

وارتمى إلى جواري يلهث، أخذ الماء وكأنه لم يشرب منذ أسبوع، ثم انحنى على ضمادة ساقه وأخذ يعيد إحكامه وينقي عنها الغبار والطين..

ثم تطلع إلى الأفق الدامي عند غروب الشمس وقال:

-                 كلما نظرت إلى الأصيل تذكرت الآخرة، الأصيل يوحي إلي بالنهاية...

-                 لم هذه الأحزان يا منصور؟

-                 تستطيع أن تطلق علي من الآن فصاعدا المهزوم..

ثم أخذ يغني أغنية شعبية تركستانية قديمة:

الليل يا حبيبتي مرصع بالنجوم..

ينوح كالأسير في غياهب الوجوم..

كوجه غانية..

سوداء قاتمة..

من ساحل العبيد..

حليها رخيصة..

لكنها تضئ..

عيناي لم تزالا تهمسان بالنشيد...

بوجهك المضئ..

يا حبيبتي لكنما لقاؤنا محال..

فرحتي ترف في مجاهل التلال..

 
 

قلت مازحا:

-                 إن حبيبتك أرملة قد تخطت الأربعين، ولا شك أنها تغط في نوم عميق الآن..

التفت إلي منصور في أسى وقال:

-     ألم أقل لك؟ ها قد فعلوها وفصلوا الولايات الثلاث وهم الآن يعيشون في باقي الولايات، يبعثرون نفوذهم في كاشغر وأورومجي، وقنصلياتهم تشتري الرجال، وتخطف الرجال، لقد اشتروا حتى الذهب والفضة فارتفعت الأسعار... أتعلم ذلك؟ إنهم يفسدون الاقتصاد والسياسة والفكر والدين، وذمم المواطنين أيضا.

كانت المنطقة التي لجأنا إليها حصينة حقا، فلم يكن أحد بقادر على مداهمتنا فيها لوعورة مسالكها، وكل مجموعة دفعها العدو إلينا استطعنا أن نبيدها إبادة تامة، وأصبحت لنا اليد الطولى في تنسيق العمليات الجربية، وتنظيم حرب العصابات، وكانت سلطة العدو تحاول جاهدة أن تصدر البيانات الكاذبة.. عثمان باتور قاد عملية بارعة، وزحفنا حشودا ضخمة صوب آلتاي، واستطعنا احتلالها وطردنا العدو وفر أذنابه والخونة، وفرض الجنرال باتور سيطرته على المقاطعة مرة ثانية..

ويومها ابتسم منصور درغا وقال:

-                 هذا حظ أرملتي الحسناء، أوشكت أن تترمل مرتين.

ودخلنا المدينة وجرت النسوة المحجبات يستقبلن الجنرال بالأغاني وخرج الرجال بالهتافات المدوية، والأطفال بالأناشيد الحماسية، كلما حققنا شيئا من النصر يظهر وجه بلادنا الحقيقي تغمره الفرحة تضئ المآذن وينطلق منها التكبير والتسبيح لله.

أشعر أن آباءنا الأقدمين الفارابي والبيروني والبخاري وابن سينا أشعر وكأنهم يلبسون عمائمهم ويقفون على مشارف الطرق يحيون جهادنا، ويرحبون بمقدمنا..

أشعر أن المجد القديم كله يبعث من جديد، فيمتلئ بالثقة وتفيض روحي بالأمل...