ليالى تركستان (13)

ليالى تركستان (13)


 


 

كور قبضته، وزم شفتيه، وصرخ في جنون:

-                 تسحقني الإرادة اليائسة.

هذا ما قاله خاكم تركستان الأكبر، واستطرد في سخط:

-     كان علي أن أعتمد على خلفائنا أو على مساعدة الصين لكي أحمي سلطاني من ثورة الشعب التركستاني، ما وقفت قط وحدي واستطعت أن أنجز أي انتصار.. ما معنى ذلك؟ معناه أن أبقى طول حياتي متكئا على ذراع حليفي، لذالك لم أشعر قط بالراحة أو التنسم بيرح السعادة.

رد أحد الجنرالات الصينيين الكبار قائلا:

-                 لم نفكر قط في أن نتخذ شعب التركستان الشرقية صديقا.

-     هذا مستحيل، الغازي والمهزوم لا يمكن أن يكونا صديقين، كل مرة كنت أحاول أن أسكت المقاومة بالعنف والقسوة... لم يكن هناك طريق آخر.. لست ساذجا، إنني أفعل ما أعتقد أنه صواب لا غير، انظر.. الجبال حولنا تمطرنا بالرصاص والرجال، بعد انهيار العون من حلفائنا، وإذا لم يف زعيمنا بوعده فستسقط أورومجي، وسنذبح هنا في أشهر مذبحة عرفتها أرض تركستان..

-     وعاد الحاكم إلى استراحته الخاصة، كان ثائرا منفعلا، وجلس وحده يفكر، ولا يدري أطال به الوقت أم قصر، لكنه عندما رفع رأسه وجد فتاته تقف وفي يدها زجاجة وكأسان، وتمتم في دهشة:

-                 منذ متى وأنت واقفة هكذا:

-                 حوالي نصف ساعة.

-                 يا إلهي! ولماذا لم تتكلمي، لشد ما يعذبني صمتك.

كانت فتاة تركستانية مرغمة على أن تعيش مع الحاكم على الرغم منها، كانت تحمي بذلك نفسها وأسرتها، ليست هي الفتاة الأولى ولكنها هنا منذ شهور، إن الرئيس لم يكلمها بعد، هي صامتة دائما، كان المفروض أن يطردها، لكن صمتها كان يحلو له، كل النساء ثرثارات، أما هذه فلا تكاد تفتح فمها إلا لتجيب على سؤال في أقل كلمات ممكنة، وقال لها:

-                 إذا رحلنا من هنا فهل تبقين أم ستأتين معي؟

-                 إنني طوع أمرك يا سيدي.

يبدو أنها لم تفهم ما يرمي إليه.

-                 حسنا .. قد يهزمنا التركستانيون عندئذ...

ولم يكمل حديثه، لكنها نظرت إليه، وقالت بسذاجة:

-                 عندئذ ستنجو بنفسك يا سيدي، ولن تفكر بامرأة مثلي.

-                 لماذا؟

-                 النساء كثيرا على طول الطريق، وأنا من أكون؟

هز رأسه وقال:

-                 ستبقين هنا إذن؟

أجابت بكل هدوء:

-                 نعم، حتى يأتي أهلي ويأخذوني.

أطاح بالزجاج والكأسين بضربة واحدة وصرخ:

-                 كلكم تعيشون معي بلا قلوب.

-                 إنني لا أفهم ما تتكلم عنه، أتراني قصرت في واجبي؟

-                 أنا لا أتكلم عن الواجب يا حمقاء..

-                 عم تتكلم إذن يا سيدي؟

-                 عن الحب..

-                 نظرت في بلاهة ولم تتكلم...

"الحياة كلها يسودها الخوف، والناس هنا يتحركون بدافع الخوف أو المصلحة، حتى الجنود الصينيون في المعركة، عندما يشعرون أن حياتهم في خطر، يركعون على الأرض ويهتفون مستغيثين ويطلبون الشفاعة من التركستانيين، وبعضهم يهرب بحياته للإسلام، ويعتنق دين الأعداء التركستانيين، والحلفاء يعانونني ويرسلون جيوشهم بثمن.. إما أن يسيطروا على السلطة أو يستولوا علىالمواد الخام أو يكسبوا أنصارا لهم، وأنا نفسي لم يتقدموا لمساعدتي إلا بعد أن أعلنت ولائي لهم..."

والتفت مرة ثانية إلى الفتاة:

-                 اذهبي إلى الجحيم.

-                 أخرج من القصر؟

-                 ألا تعرفين الجحيم؟

-                 الجحيم... الجحيم... لا أعرف مكانه بالضبط، ولكني أستطيع أن أسأل...

قهقه في سخرية وهتف:

-                 انصرفي يا حمقاء..

وعندما همت بالانصراف، عادت إليه تقول:

-                 تذكرت يا سيدي، الجحيم هنا، في الآخرة حيث يأوي الأشرار والكفرة وأعداء الله..

استرخى على المقعد، ونظر إليها بعينين ذاهلتين وقال:

-                 اذهبي إلى هناك.

-                 لكني لم أمت بعد.

وراح في سبات عميق، كان غطيطه يدل على أنه لم ينم منذ ليلتين، وبقيت الفتاة واقفة، ثم أفاق على ضجة ونظر، فإذا بها واقفة:

-                 من أي داهية أتيت؟

-     جئت من أقصى الشمال، من أطراف سيبريا.. هل نسيت يا سيدي ، كنت أقدم لك الكؤوس والفواكه في إحدى زياراتك .. أعجبت بي.. وبقية القصة أنت تعرفها.. إذا رحلت أنت من هنا، فسأذهب إلى الشمال، وأبحث عن أبي وأمي.

-     كانت جميلة فاتنة غير متعلمة،جرها إلى المقعد، وأجلسها على ركبتيه، وأخذ يربت على شعرها في تدله، ويلامس أنفها الرقيق وشفتيها الدسمتين، وعينيها الواسعتين ثم يقبلها وكأنه في حلم وردي وتمتم:

-     الحاكم لم يصلح لشيء، لقد ذهب الشباب والحب بعد أن زال السلطان والنفوذ، لقد نسيت اسمك ولم أعد أذكر إلا خيالات باهتة يحتضنها الماضي التي تختلط فيه الابتسامات بالموع.. والحرب دائما.. ولا شيء غير الحرب..

دقت دقات على الباب، فتنحني الفتاة وتخرج، ويدخل ضابط أركان حرب:

-     سيدي، النجدة لم تصل، والتركستانيون المسلمون يحاصرون أورومجي، والمعارك الدامية تدور خارج المدينة ، لم نحرز أي تقدم.

-                 ادفعوا بالمزيد من الرجال.

-                 ألا تفكر في الانسحاب؟

-                 الانسحاب حماقة، إذا فكرنا وانسحبنا أتدريماذا تكون النتيجة؟

-                 ماذا؟

-     سيختطفنا المسلمون من كل جانب، سيقضون علينا من كل صوب، ونخسر المعركة بكل تأكيد، وسنموت جميعا، أورومجي محصنة، وتستطيع أن تصمد لفترة طويلة، ليس هناك من وسيلة سوى الصمود حتى الموت.. أو تأتي النجدة.. اخرج وأبلغ القيادة بذلك.

-                 تلعثم الضابط وقال:

-                 إن الإنذار الذي أرسله عثمان باتور يؤكد سلامتنا إذا رحلنا.

ضحك وقال:

-                 أنا لا أثق في وعود المحاربين.

-                 لماذا؟ إنهم لا يكذبون يا سيدي.

-                 قهقه وقال:

-                 إننا خدعناهم ألف مرة.

-                 لكنهم...

قاطعه الحاكم قائلا:

-                 انصرف، المقاومة حتى النهاية، لا انسحاب ولا تسليم.

وانصرف الضابط، وبقي الحاكم وحده يعاني من ضيق ووساوس لا حد لها، وعندما يقترب القائد من حافة اليأس لا يصح أن يستسلم، بل يجب أن ينتحر، وأفضل وسيلة للانتحار أن يقذف بنفسه في أتون المعركة، هذا ما أفكر فيه، لقد أرسلت أخي إلى عاصمة الصين، ولن يعود أخي خالية الوفاض، إن الزعيم لن يترك تركستان الشرقية تفلت من أيدينا.. معنى ذلك أن يبتلعها حلفاؤنا، النجدة لا بد آتية.

وبينما هو منهمك في أفكارهإذ عادت الفتاة الصامتة مرة ثانية تحمل إليه بعض الطعام وزجاجة أخرى من الخمر، وبعد أن وضعت الطعام أمامه قالت:

-                 سيدي.أريد أن أرحل.

نظر إليها في دهشة وقال:

-                 لماذا؟

-                 إنني هنا خائفة، والحرب تقترب.

قهقه وقال:

-                 نعم.

-                 وما قيمة أن تموتي أو تعيشي؟

-                 لا أريد أن أموت.

-                 ألا يكفيأن تكوني في جواري؟

-                 أنت سيد كبير وأنا مجرد جارية أو خادمة .

نظر إليها في غيظ،كان يحبها ويلذ له وجهها وصمتها وسذاجتها، لقد ضاق ذرعا بأنواع كثيرة من النساء، لقد جرب المتعلمات، وجرب الفنانات، وعاشر وجرب الصينيات المهاجرات إلى أرضه الجديدة، مل الجميع، ولكن هذه البلهاء لم يزل لها في قلبه منزلة أسيرة، لماذا؟ لا يدري.. للقلب أحكامه الخاصة.

ونظر إليها نظرة أخرى بعد أن خف غيظه وقال:

-                 ماذا تتمنين من الحياة؟

-                 أن أعود إلى أهلي.. حيث المراعي.. و..

قاطعها قائلا:

- ألا تريدين البقاء معي؟ سأغمرك بالذهب والطعام والملابس والحماية...

أخذت تبكي وتنتحب، فصرخ فيها محتدا:

-                 لسوف أشوي جلدك بالسياط أيتها المتمردة.

جففت عينيها في ذعر، وقالت:

-                 ما فكرت في أن أسيء إليك.

-                 وسأسوق أهلك إلى سجن أسود لا يخرجون منه..

فانكبت على قدميه باكية وقالت:

-                 الرحمة، إنني أعتذر عما بدر مني خطأ.

-                 اذهبي.

-                 فخرجت ترتجف كطائر بلله المطر في ليلة باردة ليلاء..