ليالي تركستان (1)
نحن الآن في عام 1930م، أعيش في مقاطعة (قومول) وكانت الصين قد احتلت هذه المقاطعة في نفس العام، وبعد الاحتلال أصبح القائد الصيني للمنطقة هو الحاكم بأمره، كل شيء يجري على هواه، والحسرة تملأ النفوس وتطل من العيون الحزينة، وأمير قومول المسكين يعيش في قصره لا يتمتع إلا بسلطة اسمية كنت أرى بعيني رأسي أفواج الصينيين تتدفق إلى الولاية.. أعني مقاطعة قومول.
وحكومتهم تمدهم بالأموال المنهوبة كي يشتروا الأرض، ويقيموا البيوت وينشئوا المتاجر، كان عمري إذ ذاك حوالي خمسة وعشرين عاما..حفظت القرآن في المسجد وتعلمت القراءة والكتابة باللغة العربية، وبلغة البلاد، وأنا أعرف الصينية أيضا.. نحن نجاور الصين، ويمكنني في الوقت نفسه أن أتحدث بلغة أهل منغوليا القريبة منا، والواقعة تحت سيطرة الروس..
هنا عاش جنكيزخان وأولاده..وهنا قصص كثيرة عن البطولات في كل فن ولون...
وفي يوم من الأيام أصدر القائد الصيني منشورا هز البلاد من أقصاها إلى أقصاها..
هذا المنشور يلزم أي تركستاني بأن يزوج ابنته من أي صيني يتقدم لطلب يدها، برغم اختلاف العقيدة..
إن الاحتلال أمر مؤقت قد يزول في يوم من الأيام، والمعركة مع العدو كر وفر..أما أن يدوس العدو مشاعر الناس ويحتقر شرائعهم، ويسخر من دينهم فهذا أمر فوق الطاقة..
استدعى القائد الصيني أمير قومول المسكين ، وقال له :
- أيها الأمير . . لقد عزمت على مصاهرتك أنت بالذات . .
شحب وجه الأمير ، وارتعشت أنامله ، وقال بصوت واهن :
- " أنت تعلم أيها القائد أن هذا مستحيل ".
قهقه القائد في سخرية :
- " أنا لا أعرف المستحيل أيها الأمير ".
- " هذا أمر الله . . "
- " لا دخل للإله في شؤون القلوب . . لقد أحببتها . . "
- " لقد درج الفاتحون على احترام عقيدة أهل البلاد المفتوحة . . "
- " هذه خرافات لا أومن بها "
- " هذا أبشع من الموت أيها القائد "
اكفهر وجه القائد وصرخ :
- "الأمر يخص الأميرة . . اذهب وأخبرها . . وأمامك بضع ساعات للتصرف.."
وخرج الأمير التركستاني ، لا يكاد يعي شيئاً مما حوله، إنها مهانة لا مهانة بعدها ، وبدا القصر لعينيه مقيتاً يوحي بالضيق والعذاب، كيف يقابل زوجته وأولاده ، لم تعد للحياة قيمة ، أيفر إلى الجبال يقتات الأعشاب، ويؤانس الوحوش، حتى لا يرى المأساة بعينيه ؟؟
ما أتعس العاجز المظلوم!! والأمر أشد تعاسة عندما يمس أميرا كان ذا شأن وسلطة ونفوذ لا حد له..
ودخل الأمير قصره . . . السيوف الأثرية تتدلى في عناء ، والبنادق الفارعة فوق الجدران كجثث الشياه المتعفنة ، وتاريخ أجداده نائم في أحضان الصفحات المتراصة التي غلفها الغبار . ..
همست زوجته:
- ما بك؟؟
رفع إليها عينين مبللتين بالدموع وقال:
- إنني أنتظر أمر الله...
لم تفهم شيئا، وقالت:
- أهناك ما يكربك؟ إنني لا أتوسم في هؤلاء الصينيين أي خير..
- إنهم لا يعرفون الرحمة.
- صدقت..
- القائد يريد أن يتزوج ابنتي..
ثم صاح كمجنون:
- تعالي يا بنيتي...أي فتاتي..
ثم مسح دمعة أفلتت من بين أهدابه:
- أميرتي الغالية...الدب الأحمق يريد أن يتزوجك..هذا مستحيل..أتوافقين؟؟
قالت الأميرة الصغيرة وعيناها تدوران في قلق ممتزج بالدهشة:
- ما معنى ذلك يا أبي؟
ضحك الأمير التركستاني ووجهه محتقن كالم نفسه:
- هناك أشياء كثيرة الآن لا معنى لها..الحياة نفسها لا معنى لها..
- لكنني أريده يا أبي..
-هو يريدك..
- عليه اللعنة..
- اللعنة تصيب المهزوم دائما..
- في أي شريعة أو دين يفرض على الفتاة أن تتزوج برغم إرادتها..
- العلاقة يا فتاتي بين الغالب والمغلوب لا تلتفت للمبادئ أو الإرادة الحرة..
ثم تلفت الأمير الحائر حواليه ، شعر أن الجو حواليه خانق ، يكاد يزهق أنفاسه ، كان يعبث بالفرش إلى جواره في عصبية بالغة :
- " أتوافقين ؟ "
- " الموت ولا هذا ! "
- " لماذا ؟ "
- " أمر الله فوق أمر الصينيين! "
وقف ، ثم احتضن الأميرة الصغيرة ، عيونها الجميلة توحي بالحيرة القاتلة ، وجهها النضر كالوردة ينطق بالرعب ، ثم شهقت باكية :
- " لا أتصور يا أبي . . . لا أتصور أن تساق فتاة هكذا . . . السير إلى ساحة الإعدام أسهل بكثير . . "
جفف الأمير أهداب ابنته ، وربّت على شعرها الناعم الأشقر ، ثم لامس خذيها الورديتين في حنان ، ثم وقف ودق الأرض بقدمه صارخاً :
- " لن يكون . . . "
قالت الزوجة بنبرات مرتعشة:
- يجب أن نتدبر الأمر بحكمة..
- أعرف أن لن يرضى الهزيمة..
- وسيتخذ إجراءات مشددة بالتأكيد..أنت تعرف القادة الصينيين جيدا..
- آخر مدى يصل إليه ما هو؟؟ حياتي؟؟
- طأطأت زوجته رأسها في حزن..
ونادى الأمير التركستاني قائلا:
- مصطفى مراد حضرت.
- أمر مولاي..
ودخلت عليه دون أن أرفع نظراتي إلى وجهه.
- مصطفى..لتحضر أوراقا ومحبرة وقلما..
وجلس أميرنا يسجل رسالة قصيرة للقائد الصيني جاء فيها:
"...إن الأمر أيها القائد المنتصر يخرج عن دائرة تصرفي لأن ديننا يمنع ذلك، ومن جانب آخر فإن ابنتي لا تفكر في الزواج، ومن ثم تراني خاضعا لاعتبارات عقائدية وإنسانية، وأن الصين العريقة لا تقبل أن تهمل تقاليد جيرانها، أو تتنكر لعقائدهم أو تهزأ من مشاعرهم... وليست هذه القضية تتعلق بكبرياء الصين أو جيشها المتتصر، إنها أمر ثانوي لا ينعكس عليها بالضرر بعد أن دانت لها البلاد، وامتلكت مصائرها السياسية والمادية.. وصدقني فإن أمرا كهذا قد تكون له عواقب وخيمة، تضر بالعلاقة التاريخية بين الشعبين: الصيني والتركستاني.. ولو أمعنا التفكير معا في آثار هذا القانون الذي يرغم التركستانيات المسلمات عل الزواج من الصينيين، لوجدناها بالغة الخطورة، ولا أعني بذلك التهديد، وإنما أقصد مصلحة الأصدقاء واستتباب الأمن في البلاد، وإني لأستحلفك بكل عظيم ومقدس أن تعيد النظر في هذا الأمر.. لعل جوانبها جميعها تتضح لديك..مع أطيب تحياتي واحترامي.."
((أمير قومول))
وسرت الأنباء في المدينة مسرى النار في الهشيم، وتخطّت حواجز القصر المنيف، وتهامست بها النسوة في المنازل، وتلقتها الرجال في قلق وغيظ بالغين. . إن احتلال الأرض لفترة ما قد يكون أمرا يسهل الانتظار عليه حتى تحين الفرصة للخلاص، لكن الدخول في أخص خصوصيات الناس هكذا والعبث بشرفهم ومعتقداتهم أمر آخر يحمل في طياته أشد أنواع الخطورة .. وعندما قرأ القائد الصيني رسالة الأمير التركستاني وكنت أنا الذي حملتها إليه، كورها في يده ، ثم رمى بها ، وبصق عليها .. .
ثم اتجه صوبي قائلاً :
- " قل لأميرك : إنه يعبث كما يعبث الصبية . . هذه قوانين (صن يان صن ) أبو الصين الأعظم . . ولن تستطيع قوّة في الأرض أن تبطل قوانينه "
وأٌخذ مولاي الأمير في نفس الليلة إلى السجن . . ليلتها بكت المدينة كما بكت بالأمس على شهداء المعركة ، وليلتها أدرك الناس أن الغزو الصيني يحمل في طياته خطراً آخر غير خطر غزو الأرض . . وليلتها لم يستطع النوم في قومول أن يستولي على جفون الرجال والعذارى، وشر البلية ما يضحك أن كل فتاة تحاول جاهدة أن تبحث لها عن رجل مسلم يتزوجها قبل أن تساق إلى غاز من الغزاة الصينيين أو مهاجر من مهاجريهم.. أنا لي قصة ظريفة.. كنت قد أحببت فتاة تخدم في القصر منذ عام.. كانت تتمنع علي وترفض الزواج، وتطمع في رجل أعلى مركزا مني.. أنا مجرد حارس في القصر.. والقصر يدخله علية القوم..
وعدما سيق الأمير إلى السجن أتت إلي مهرولة والدموع تغرق وجهها:
- مصطفى.. ها أنا ذا بين يديك.
كنت مغتما لمصير الأمير التعس وأشعر بعزوف عن الدنيا وما فيها.
صرخت في حدة في وجه الوصيفة.
- إليك عني يا نجمة الليل.
- ربما أكون قد أسأت إليك.. لكنني أحبك..
صورة الأمير السجين تملأ خيالي ، من الصعب أن تتصور الأعزة الكبار يرسفون في الأغلال ، ويساقون كما يساق العبيد ، يا إلهي ، إنه مشهد لا يمكن أن ينسى مدى الحياة ، ومع ذلك فقد كان الأمير يمضي بين الزبانية الصينيين مرفوع الرأس ، يشمخ بأنفه في كبرياء ، كان في صمته ثورة ، وفي استسلامه عاصفة ، وفي نظراته الشاردة نداء دمويٌّ رهيب.
قالت حبيبتي القديمة:
لم لا ترد يا مصطفى حضرت؟؟ ماذا تنتظر؟
سوف تندم حتى آخر حياتك إذا ما جاء صيني لئيم وضمني إليه..
قلت وكأني أثأر لكبريائي الجريح:
- أنا أرفض الزواج الاضطراري..
- أيها الأبله، إن فيه تحقيقا لآمالك، وإنقاذا لي، وحماية لعرضنا وديننا...
التفت إليها، وقد بدت الدموع في عينيها، وصاحت:
-لا تبك.. لقد أصبحت أكره النظر إلى وجوه الناس.. الدموع في كل مكان.. هذه حياة لا تطاق.. اعلمي جيدا أنني لن أتزوج إلا إذا خرج الأمير من سجنه..
اقتربت مني هامسة:
أيها المجنون.. انتهى عصر الأمير.. فلا تربط مصيرك بعالم يزول، ومجد ذاهب..
أمسكت بذراعها ودفعتها في عنف قائلا:
- هذه خيانة يا نجمة..
- أنت مخطئ يا مصطفى.. فأنا أحب الأمير وأسرته كما أحب روحي.. لكن لا معنى لأن تنتظر حتى تفوت الفرصة .. إن ذلك لا يرضي الأمير ذاته..
وتركتها دون أن أبت في الأمر، كان جو الحزن يخيم على قصر الأمير، وكانت زوجته تروح وتجئ كالمجنونة، تنتقل في جنبات القصر الفسيح على غير هدى لا تأكل ولا تشرب، وأولاده وبناته وأقاربه قابعون تلفهم الكآبة، أما ابنته الأميرة الصغيرة، فقد وقفت في صالة القصر المفروشة بالسجاد الثمين وقالت:
- ماذا لو تزوجته وقتلته؟؟
لم يلتفت لحديثها احد، لكنها أخذت تلف وتدور، وترغي وتزبد حول هذه الفكرة، غير أن أمها ربتت على كتفها في النهاية، وكانت امرأة عاقلة، وقالت لها:
- الأمر أكبر من ذلك بكثير..
في اليوم التالي كانت الشوارع في قومول تضج بمآسي يقشعر لها البدن، وتشيب لهولها الرؤوس، فالشرطة يجرون الفتيات جرا كي يرغمونهن على الزواج من الجنود والمهاجرين والآباء التركستانيين الرافضين تشوي السياط أبدانهم، ويضربون بكعوب البنادق، ويركلون بالأقدام في ازدراء ومهانة، وكثير من الأسر والبيوتات العريقة تهرب إلى خارج المدينة، إذا ما جاء الليل، وتأوي إلى الجبال أو تنطلق إلى الصحارى العريضة.
ومرت أيام كلها آلام وأحزان، وكان في مدينتنا رجل شهير يقال له (خوجة نياز حاجي)، وهو من رجال الفكر والدين والوطنية، معروف بشجاعته وصدق بلائه، وكان الرجال في قومول يذهبون إليه حائرين مستفسرين.. فكان يقول:
-"أدوات النصر أنتم تعرفونها... الصبر والصمود...الجهاد حتى الموت... لا جديد بعد كلمات محمد... انظروا... لا يفل الحديد إلا الحديد.. كل ما أعرفه أن أقواما بلا شرف.. هم موتى وإن كانوا يأكلون ويشربون ويتنفسون ... لا تستنكروا تصرفات العدو وحده، ولكن ابكوا على تهاونكم واستنكروا استسلامكم ...أتفهمون؟".
لكن موجة الطغيان تمتد وتنداح... وأصواط الاستغاثة تعلو.. والسياط تعلو وتهبط وتمزق الأجساد العارية، والنسوة يسقن إلى الجند الغزاة.. والرجال يشعرون بالخجل والضعة والهوان، والجنود يقهقهون ويمرحون ويتحسسون أجساد النساء في نشوة ولذة، وكأنما يفحصون ماشية معروضة للبيع.. والقومول تغلي كالمرجل، ولا تجد متنفسا لحقدها المكبوت، وأميرها يعاني الوحدة والعزاب في السجن.. وأنا العبد الضعيف (مصطفى مراد حضرت) ماذا أستطيع أن أفعل؟؟ قال لي (خوجة نياز حاجي) زعيم بلدنا الهمام :
- يا مصطفى . . اذهب إلى أميرك في السجن . . وقل له : يجب أن يبحث عن مخرج.