ليالى تركستان (14)
وأخيرا أرسل الزعيم النجدة المكونة من ست فرق انتحارية مجهزة بأحدث أسلحة، وعندما حاولت الفرق الستعبور حدود تركستان تصدت لها قوات الحدود، فأرادت القوات الصينية أن تخدعها، وتقدم قائد الفرق الصينية من القائد التركستاني وقال:
- إننا لم نجئ إلا لتأديب الحاكم الذي انحاز وتشيع مع حلفائه، ولا نريد سوى تطهير بلادكم منهم.
قال القائد التركستاني ساخرا:
- فلتطهروا بلادكم أولا.
- تاكد يا سيدي أننا قادرون على تطهير أرضنامنهم ومن قائدكم أيضا، نحن نعرفه جيدا، إننا نعتصم باللإسلام وهو خير درع ضد أي غزو.
قال القائد الصيني:
- إن وقوفكم في وجه قواتي يعطي الأعداء فرصة أكبر.
- أنتم أيضا أعداء.
- لسوف يفتك بكم الحاكم.
- إنه محاصر في أورومجي، ولن يستطيع الهروب.
- حسنا.. لسوف نعود من حيث أتينا، ولنترك لكم هذا الخطر الداهم كي تعالجوه بأنفسكم.
ولم تمر أيام قليلة حتى ظهرت الخدعة، وتقدمت الفرق الانتحارية الصينية على حين غرة، وداهمت حرس الحدود، وكان عددهم قليلا جدا بالقياس على عدد القوات الصينية الزاحفة، إنها معركة غير متكافئةجعلت الصينيين يعبرون الحدود، وعانت هذه الفرق ما عانت من مقاومة الأهالي، وفقدت الكثير من القتلى واستطاعت بعد جهاد مرير أن تقترب من ؟أورومجيحيث يقيم الحاكم الصيني كالسجين، إذ كان تحاصره قوات عثمان باتور النظامية، عندئذ أعلن الحاكم الصيني عن تخليه عن حلفائه تماما، فأتت جموع صينية جديدة تزحف كالنمل، لتواجه عثمان باتور وقواته:
قال عثمان باتور:
- أيها الرجال! أنا لم أيأس بع.
- لا قبل لنا أيها الجنرال بهذه الحشود الصينية التي لا أول لها ولا آخر.
ابتسم عثمان باتور في ثقة.
- إلى القلب الحنون... إلى الجبل.
- كيف؟
- ن هناك سنبدأ من جديد يا مصطفى حضرت.
- سيدي..
- أعرف ما تقول، تريد أن تستمر المعركة حول أورومجي، في الإمكان أن نصمد حتى الموت، هذا شيء عظيم، الأعظم منه أن نبقى أحياء ونطهر أرض الإسلام منهم.. أعلن في الرجال العودة إلى الجبال.
وعدنا إلى الجبال نحمل جراحنا وقتلانا وأحزاننا، لم يستبد بنا اليأس، كنا فرحين لأننا أذقنا العدو الأمرين، وكبدناه الكثير من الضحايا، لقد دفع الثمن غاليا، ونحن لم تنكسر شوكتنا، أو تخمد عزائمنا، وأشرف الجبل من جديد بوجوه الرجال الصابرين الصامدين، وعادت صفوف الصلاة والتكبيرات تحوم في الآفاق العالية وأخذت المناورات تستأنف من جديد، الأمر المضحك أن الزعيم أصدر أمرا بعزل صديقه الحاكم الذي استنجد به، وعين مكانه صينيا آخر حاكما عاما على التركستان الشرقية، وابتسم عثمان باتور وقال:
- من لا يملك يجود على من لا يستحق، كأن بلادنا مزرعة خاصة لهم.
كان الحاكم الجديد شرسا عصبيا، وأراد أن يثبت أنه جدير بمنصبه الجديد، لقد اتخذ خطوة قمع قاسية خبيثة، وكان أبشع ما في هذه الخطة هو أنه أصدر أمرا بالقبض على الطبقة المثقفة في تركستان وخاصة الكتاب والشعراء والعلماء، حتى أولئك الذين لم يحملوا السلاح من قبل، وأقام مذبحة رهيبة ترددت أنباؤها الفظيعة في كل أنحاء البلاد.
ويومها ساد جو الجبل وجوم حزين، وقال منصور درغا:
- المجرم يحاول قتل روح الأمة.
قلت في أسى:
- حملة الفكر تذبحون كما تذبح الشاة.
- نعم، الدين والفكر الأصيل هما وجدان الشعب، الطاغية الخبيث ضرب ضربة في الصميم.
وقال منصور درغا وهو يبكي:
- أعرف شاعرا طالما تغنى بالانتثار وآمال الغد..
- وأعرف عالما فذا أفاض على الشباب أبان المعمعة بتحليلات ودراسات إسلامية مذهلة.
- حتى فتية المدارس الصغار الذين كانوا ينشدون الأشعار في المظاهرات ساقوهم إلى ساحة الموت.
وجاءت نجمة الليل تحمل على كتفيها طفلا صغيرا لا يكف عن الصياح وهي تهدهده في رقة وقالت:
- لماذا بقي هؤلاء المثقفون هناك، المثقف الذي لا يحمل السلاح ويأتي إلى الجبل لاستئناف المعركة ليس حقيقيا..
قلت في أسى:
-إن هؤلاء المثقفين لهم عذرهم، وشعبنا في كل مكان في حاجة إليهم وإلى كلماتهم، إنهم يؤدون نفس الدور الذي يؤديه حملة السلاح على سفوح الجبال، بل ربما يكون دورهم أخطر، ولهذا ترين يا عزيزتي أن العدو الصيني ساقهم إلى الموت قبل غيرهم، لأنه يعرف خطرهم.
وبدأت حرب العصابات من جديد، وبدا للصينيين أن المعركة لم تنته بعد، وفي كل ساعة ينحدر الرجال من الجبال ليقوموا بعملياتهم الانتحارية، ويختطفوا الغزاة، ويدمروا منشآتهم، ويبددوا المن الذي ظنوه حقيقة واقعة، وتحول النصر الصيني إلى آلام وتضحيات وعذابات مستمرة.
وفي الوقت نفسه ثورة شعبية أخرى في مقاطعة إيلي، يتزعمها وطني مخلص، وهو عالم إسلامي كبير اسمه علي خان الذي استطاع بعد معارك عنيفة مع الصينيين أن يستولى على مقاطعة ويحررها، وأصبح الشيخ علي خان رئيسا لجمهورية تركستان الشرقية الإسلامية، وكان الجنرال عثمان باتور قد انضم إليه هو ورجاله، وبفضل خبرة هذا القائد الهمام عثمان تم الاستيلاء على مقاطعتي آلتاي وتشوشك، وتكبد العدو الصيني خشائر فادحة في الأموال والأرواح، وأصدر رئيس الجمهورية الشيخ علي خان أمرا بتعيين الجنرال عثمان باتور واليا على مقاطعة آلتاي.
ولم يكن الشيخ علي يستطيع تحقيق هذا النصر إلا بعون كاف من السلاح الذي جاءه من الروس دون إملاء أية شروط سوى تطهير التركستان الشرقية من الغزو الصيني، لم يكن من اليسير أن يستسلم الصينيون بين يوم وليلة، بل ظلوا يقاومون في استماتة، وكثر عدد الجيش الإسلامي التركستاني، وانتعشت آمال الأمة بعد مفاح وعناء شديدين....
لكن منصور درغا قال:
- ها نحن ننتصر، ولكني خائف.
قلت في ثقة:
- لا معنى للخوف، ولقد جربنا أن النصر تصنعه سواعدنا.
قال منصور درغا ساخرا:
- وما قيمة سواعدنا بدون سلاح؟
أدركت أنه يعني معونة السلاح الذي جاءه للشيخ علي خان، إن منصور يشك، ويخاف على بلدنا الصغير أن يعود إلى اللعبة المحزنة، لعبة الكرة التي تتداولها أقدام الأقوياء.
- إن العالم يتغير يا منصور.
هز كتفيه قائلا:
- بل إن المنتصرين امتلأوا غرورا وغطرسة.
- سوف يتحول احتلال البلاد إلى شيء آخر.
- ماذا تعني يا مصطفى؟
- أني الصداقة هي بديل للاحتلال، ولا مانع من أن نكون أصدقاء للذين ساعدونا.
نظر منصور إلى الطفلي الصغير وقال:
- إنني أنظر إلى طفلك الصغير، أتعلم أنني حزين من أجله؟
- لماذا؟
- أنت تظن أننا وحدنا مارسنا حياة الأخطار والأهوال، لكني أؤكد لك أن ابنك وجيله سيكون أتعس منا.
قالت نجمة الليل وهي تلف ولدها في حب وتضمه إلى صدرها في خوف:
- لا تقل هذا الكلام عن ولدي.
وضحكت، وضحك منصور، لكنه عاد يقول:
- الصينيون المنهزمون طلبوا الصلح.
- لقد رفضناه.
استدار نحوي وقال:
- هل تعلم أن الدولة التي تمدنا بالسلاح ضغطت على رئيس الجمهورية كي يقبل الصلح والمفاوضات؟
قلت في حدة:
- على أي أساس؟
هز منصور كتفيه وقال:
- على أساس استقلالنا، وأريد أن أقول إن رغبة تلك الدولة كانت أقوى من الرغبة الشعبية، أردنا انسحابا غير مشروط للذينيين وهزيمة كاملة لهم، وأرادت تلك شيئا آخر.. المعنى لا يخفى عليك.
قالت نجمة الليل وهي تهدهد طفلها:
- لقد عاد السلام الذي طالما حلمنا به، ونحن نعود إلى مدننا وبيوتنا وننعم ببعض الراحة، إني أرى المستقبل رائع.
لوح منصور درغا بيده قائلا ثم مال على أذني هامسا:
- عثمان باتور كان رافضا للمقترحات.. إن استقلالنا استقلال ذاتي.
قلت في ضيق:
- سيرحل الصينيون، وهذا هو المهم.
هز كتفيه مرة أخرى وقال:
- من يدري.