ليالى تركستان (10)

ليالى تركستان (10)

 
 

إني أعيش في بيت أحد أعدائي، إنه ليس مجرد عدو، غريم استولى على من كنت أحب، يخيل إلي لو مضى علي في هذا المكان عام لتحولت إلى آلة، إلى إنسان شبيه بنجمة الليل، فالحياة الهادئة وتوافر الطعام والملبس والهدوء والركون إلى عيش جميل كهذا يقتل في الإنسان روح الثورية والجهاد، مشكلة أخرى أنني أرى في عيني نجمة الليل أشواقا غريبة حادة، أصبحت أخجل من نظراتها، وفي أغلب الأحيان أهرب منها، وأجد نفسي في كثير من الليالي أفكر فيها، وأغار عليها، هذا البيت تسكنه شياطين من نزوات وخطايا، بالأمس أقيمت في البيت حفلة راقصة، اختلط الحابل بالنابل، كانت نجمة الليل لا شك هي نجمة الحفل، العيون تلاحقها، كل الضباط يريدون مراقصتها، وشرب زوجها حتى ثمل، لكنهم في الفجر استدعوه لمهمة عاجلة فخرج يترنح بعد أن ارتدى معطفا سميكا، الأمر يبدو عاديا، لكني وجدتها تأتي إلى غرفتي، ازداد وجهها شحوبا من كثرة السهر، أحاطتني بذراعيها ووجدت شفتيها تقتربان..

-                 سيدتي.. يجب أن أعد طعام الإفطار.

-                 لست أشتهي شيئا، وأنا لست سيدتك.

-                 القصر كله عيون.

-                 لا أستطيع الصبر.

-                 ما معنى ذلك؟

-                 ألا تفهم؟

-                 وأنا أكره الخيانة.

-                 خيانة الخائن ليست خطيئة.

-                 وأنا رجل مسلم أعرف الله.

هل كانت تريد الانتقام من زوجها، أم تريد أن تقدم نوعا من العطف أوالشفقة، أهو الحب القديم ثار وتمرد؟ وأمسكت بيدي في توسل، وأنا أهرب من نظراتها ولمساتها مخافة ان تضعف مقامتي، وهمست في انفعال:

-                 على سفوح الجبال رجال يتضورون عذابا وجوعا.

-                 هم رجال حقا، لكنهم يعيشون حياتهم.

-                 في الحدود التي أباحها الله.

نظرت كذئب جائع مفترس وقالت مهددة:

-                 أنت تعرف أنني أستطيع عقوبتك.

-                 أهذا هو الحب؟

-                 نعم.

-     عندما يضمك سجن من سجونهم الرهيبة، ويلفك الصمت والظلام، وتهوي السياط على جسدك، عندها سوف تحلم بدقائق تقضيها إلى جواري.

قلت لها في ثقة:

-                 لقد نذرت نفسي للموت.

-                 أنت تلعب بالنار، أنت زوجي الحقيقي.

-                 لكنك في عصمة رجل أسلم، وإن كان إسلامه أمرا ظاهريا.

-                 إذن لماذا أتيت إلى هنا؟

باغتني السؤال، صحيح، لماذا أتيت؟ لقد كنت أفكر في الانتقام طوال حياتيمن هؤلاء المعتدين، لكن أين الانتقام؟ ودق قلبي، هناك حقيقة أحاول إخفاءها، لقد كنت أحب نجمة الليل، إن قبولي المجيء إلى هذا القصر يمت إليها هي الخرى بصلة،وتركتني وانصرفت، لم أرها طوال اليوم، وبقيت أفكر لماذا ساءت الحال؟ وتحكم في أرضنا الغريب، قال لي في الزمن الغابر أحد خطباء مسجد "كاشغر":

-     يا بني إن الإسلام هو العزة، فمن تمسك به عز، ومن تركه ذل، وبلادنا استسلمت في نوم عميق، وغلبت عليها الدعة والاسترخاء والعبث، وأخذ الناس ينسلون عن الدين عروة عروة... يا بني لقد طغى الغنى وضاعت الحكمة ورضخ العلماء للأمراء وعم الفساد والفقر والجهل، وانتشرت المعاصي، يا بني هذا هو بداية الانهيار. وقال أيضا:

-     إن في الشرق اعداء وفي الغرب أعداء، وهم يعتصمون ابلقوة والكثرة، ونحن نعتصم بأمجاد قديمة، والأمجاد القديمة لا تصمد وحدها.

وقال لي:

-     يا بني، المسلمون ممزقون، تركيا تنهكها الحروب والمظالم، والعرب تحت سنابك خيل العدو صامتون، والكفر ملة واحدة، والمسلمون ملل عدة، وبذلك تستطيع أن تفسر لماذا يكون النصر، ولماذا يكون الهزيمة.

إني أتذكر هذه الكلمات جيدا، وكلمات أخرى كثيرة كان يرددها خوجة نياز والجنرال شريف خات وغيرهما، كانوا مؤمنين شجعانا، وفي ساحة الموت لقوا الله دون خوف، لا شك أن مجيئي لها القصركان نزوة من نزوات الشيطان، ويجب أن أرحل، يجب أن أرحل على الفور، لكن بعد أن أفعل شيئا، مقابل الوقت الذي أضعته هنا، وبعدها أسرع بالذهاب إلى الرجال بالجبال.

يقال إن البطل العظيم عثمان باتور أحد رجالنا الشجعان يجمع الرجال ويستعد لثورة جديدة، فلماذا أبقى هنا؟

وحاولت نجمة الليل أثناء غياب زوجها أن تطمس المعاني التي تختمر في قلبي ورأسي لكني كنت أقاوم، كان من الصعب أن أقاوم، فلنجمة الليل إغراء من وع قاتل، إن سيطرتها على الضابط هذه السيطرة العجيبة لا تعني سوى أنها امراة في غاية القوة.

وعاد الضابط بعد يومين، كان مرهقا منزعجا، سمعته يقول لها:

-                 إننا على أبواب متاعب جمة.

-                 لماذا؟

-                 عثمان باتور والثوار بدأوا حرب العصابات.

-                 وماذا يضيرك، هل تظن أنهم قادرون على هزيمتكم؟

-     إنهم يداهمون المراكز الصناعية، ويخطفون الضباط، ويقتلون الكثيرين، لو كانوا في معركة مكشوفة لأمكن القضاء عليهم.

وبدا في عينيها بريق الفرح لكنها اخفته، كان منهمكا في الطعام والشراب غارقا في التفكير، وفي المساء علمت أنها خرجت معه وحدهما للتنزه في إحدى الحدائق الخاصة، وطال بقاؤهما في الخارج، لكن عند منتصف الليل عادت تصحبها ضجة كبرى، وامتلأ القصر بالضباط ورئيس الاستخبارات، ماذا جرى؟ لقد أصيب زوجها برصاصة قاتلة.. فحملوه إلى القصر، وهي تبكي وتصرخ وتشد شعرها، وتقول:

-     لقد رأيت القاتل ... لقد أطلق الرصاص وركب جواده وهرول صوب النهر.. أستطيع أن أميزه من بين عشرة آلاف...

وكانت تصيح وتولول، وبان الغضب والضيق في أعين الحضور، وأخذوا يستجوبون الأرملة الحزينة وهي غارقة في دموعها، كانوا يحاولون تهدئتها، لكنها كانت تحرضهم على الثأر والانتقام، واعتقال كل المشتبه فيهم في أورومجي.

وقال رجل الاستخبارات:

-     هذا هو الحادث الثالث اليوم في أورومجي، إن رجال عثمان باتور يثيرون الاضطرابات، لا حل سوى العنف، والمزيد من العنف، لقد قلت يجب أن نقتل كل تركستاني يشتبه في أمره، لكنهم يرفضون وجهة نظري أن جميع التركستانيين مشتبه في أمرهم، أنا أعرف كيف ألتقط الخونة، لن أترك هذه الأحداث تمر ون عقاب، وقد أعلنا حالة الطوارئ في أورومجي.

 وكانت نجمة الليل في حالة من الحزن والألم والتعب يرثى لها، لكن الغريب أن الكثيرين من رفاق القتيل كانوا يروحون ويجيئون ويقدمون التعازي لنجمة الليل، وكنت أرى في عيونهم الفرح والأمل، الكثيرون كانوا يطمعون فيها بالرغم من أن دماء القتيل لم تجف بعد، وقررت نجمة الليل في النهاية أن تعتكف في بيتها أسبوعا لا تقابل فيه أحدا، وكثرت الإشاعات في المدينة، وسادها جو من الخوف، وكان الضباط الأجانب يعانون من ضيق شديد، وبدا الأسود والنمور كالأرانب، لقد كنت على وشك الرحيل من ذلك القصر، لكن هذا الحادث أخر رحيلي، حسنا يجب أن أنتظر، وذات مساء وجدتها تدخل غرفتي، انتفضت واقفا وأنا أهمهم:

-                 سيدتي.

نظرت إلي بعينين ثابتتين لا تطرفان:

-                 ألا تعرف القاتل؟

-                 من؟

-                 حسنا، أنا الذي قتلته.

-                 أنت يا نجمة؟

ضحكت في شماتة وقالت:

-                 نعم، أتدري لماذا؟

كانت تتحدث في توتر، وكنت مذهولا لحديثها، فلم أنطق بكلمة واستطردت وهي تقول:

-     لقد قاد كمينا أوقع بعشرة من الثوار، كانت عملية رهيبة، لقد اعترف لي بنفسه، وبرر ذلك بأنه لا يستطيع مخالفة الأوامر، لقد وعدني قبل ذلك أن يتفرغ للإمدادات التموينية، وليلتها لم أنم، حاول مضاجعتي، لم يبد عليه أدنى تأثر أو انفعال، كان يمرح ويحك وكأنه لم يفعل شيئا، وتصورت.. ماذا لو كنت أنت يا مصطفى مراد حضرت أحد هؤلاء الثوار العشرة، أخذته، قلت لنحتفل بانتصارك ونشرب النخب، كان سعيدا، وروى الكثير من العمليات الناجحة، وعما أعدوه للثوار، إن عثمان باتور يسبب لهم إزعاجا كبيرا..

آه ، ونزلنا إلى الحديقة، ومررنا بجوار السور من الداخل، تناولت مسدسا، واجهته، لم أهاجمه من الخلف، قلت إنني أحاكمك، أنت خائن، والقتل جزاء الخيانة والغدر، أخذ يقهقه، كان يظن أنني أمزح، صرخت فيه كمجنونة، اثبت مكانك، الجريمة الكبرى هي الكذب، كذبت حينما زعمت أنك مسلم، فلم تصل ركعة واحدة، وكذبت حين قلت إنك تكره الحرب، أنت لم تكن سوى حيوان، وأنا بالنسبة لك كالكأس التي أدمنتها ولا يمكنك الاستغناء عنها، ..قف.. لا تتحرك، لقد شحب وجهه، ركع على ركبتيه، رأيت في عينيه الموع، تصور أنه كان يبكي، لشد ما تلذذت ببكائه، ما الذي أتى بك في بلادنا؟ أغمض عينيه وقال متوسلا:

-     أنا أحبك يا نجمة، لم أحب أحدا مثلما أحببتك، أعدك بشرفي ألا أعود لمثلها لوو طردوني من الجيش، أنت كل شيء في حياتي.

ضحكت وضغطت على الزناد وأنا أقول:

-     وأنا أحبك، وقتلي لك يطهرك من قاذورات وخطايا كثيرة. خذ..خذ...خذ..خمس طلقات بعدد التعساء الذين راحوا ضحيتك.

وانهمرت دموعها:

-                 ماذا يقول أهل قومول عني لو عرفوا ما حدث؟

ثم جرت إلى الخارج، وعادت وفي يدها كأس:

-                 معذرة، الملعون عودني على شرب الخمر، ولسوف نتزوج يا حبيبي، ولكن كيف؟

ورمت الكأس، ثم أخذت تقول وهي تقهقه في عصبية:

-                 أحد أصدقائه ألمح لي بالزواج، أحد أصدقائه المخلصين، تصور الضباط هنا قلوبهم من أحجار.

وقضينا أيما تعسة، كان رئيس الاستخبارات في أورومجي يسوق الأبرياء المشبوهين إلى المعتقل، وكل يوم كان يعدم واحدا أو اثنين بحثا عن القاتل، ومن آن لآخر كانوا يأتون إلى نجمة الليل ويعرضون عليها بعض الثوار أو المشتبه فيهم فتنكر أن أحدهم هو القاتل، وزادت عمليات القمع والسجن واشتدت حالة الطوارئ وحدها بل في كافة المدن الكبرى، كما ازداد نشاط الثوار.

وذهبت إلى نجمة الليل ذات مساء وقلت لها:

- ها قد انتهت فترة الحداد، وأرى أن تقيمي حفلا راقصا كبيرا وتدعين فيه نخبة من الكبار، بهذه الطريقة نلقي ستارا على الحادث القديم وينتهي هو وقصته، ورأيي على أن تحرصي على أن تعلني خطبتك على ذلك الصيني الذي يريدك.

قالت في غيظ:

-                 لقد قتلته لأني أريدك.

-                 وأنا أريد هذا الحفل إن كنت تحبينني حقيقة..

-                 لماذا؟

أمسكت بذراعيها البضة وجذبتها نحوي بشدة ثم ضممتها إلى صدري قائلا:

-                 حبيبتي، يجب أن ننتقم للأبرياء.

-                 كيف؟

-                 لدي شحنة ضخمة من المتفجرات أرسلها الثوار.. وعندما يكتمل الحفل سنحيل القصر إلى جحيم.

هزت رأسها:

-                 ونحن؟

-                 سنتركهم غارقين في الخمر والرقص والغناء، فإذا ما ابتعدنا عن القصر وى الانفجار.

-                 وإلى أين نذهب:

-                 إلى الجبال، هناك عثمان باتور والرجال الشجعان.

أشرق وجهها بالفرح، وأخذت تقبلني من كل مكان وأخذت أغمغم:

-     الطباخة العجوز يجب ان نبعث بها بعيدا قبل الحادث، وسائق العربة ذلك المنغولي التعس يجب أن نجد له مخرجا ، والصبيان الذان يخدمان سنبعث بهما إلى الحديقة ليعدا غرفة خاصة طالما لهوت بها أنت وهو..

وفي الليلة الموعودة، كان الليل دامسا، وركبنا جوادا قويا، وانطلقنا في عتمة الليل القارس، ونظرنا خلفنا فإذا القصر كتلة من النيران المشتعلة، وإذا المكان من حوله يضئ وإذا الصراخ وصفارات الإنذار تتوالى، وبعد ساعة كنا على مشارف الجبل.

قلت وأنا أنزلها من فوق الجواد:

-                 الجبل يا نجمة الليل سيظل مملكة الأحرار، المناضلين.

قالت وهي ترتجف من البرد:

-                 لشد ما أنا سعيدة.

ضحكت قائلا:

-                 يجب أن تبحثي لنفسك عن ثياب خشنة.

وسألتني نجمة الليل فجأة:

-                 لكن لماذا فكرت في هذه العملية الجريئة في هذا الوقت بالذات؟

قلت وأنا أسحب الجواد إلى منعطف ضيق آمن:

-     ليست هذه هي المرة الأولى، طوال إقامتي في أورومجي كنت أقوم بعمليات مشابهة، كنت أتحرك بأوامر عثمان باتور.

نظرت إلي ساهمة وعيناها محملقتان..

-     ولو لم تفعلي ما فعلت في زوجك وفي حادث الليلة لكان مصيرك كمصير هؤلاء الذين يحترقون بنيران غدرهم وظلمهم.

صرخت قائلة:

-                 ماذا؟ أكنت تقتلني؟

تذكرت قصة الضابط وخاتون، وهتفت:

-                 أنا أبوها.

لم تفهم نجمة الليل شيئا، وانصرفنا إلى أحاديث أخرى، عن السفر الطويل ولقاء عثمان باتور قائد الثورة في الجبال...