ليالى تركستان (4)

ليالى تركستان (4)

امتد النور إلى جميع الأنحاء، وخفقت أعلام النصر في أنحاء قومول، وتناقلت المقاطعات المجاورة أنباء "الانتقام المشروع" الذي حمل لواءه أميرنا ومعه قائدنا الفعلي خوجة نياز حاجي، وعلى الرغم من أنني شخصيا قد شاركت بعنف في موجة الثأر لديني ووطني إلا أنني كنت أشعر أن المعركة الساخنة لم تبدأ بعد، فالصينيون لن يتركوا الأمر يمر دون يصبغوا أرضنا الخضراء بدماء العقاب الوحشي... ووجدتني أفكر في الموت والحياة... إذا كان لكل شيء نهاية فلم نخاف من لقاء الله؟! وإذا كان مصير الشهداء هو الجنة فلماذا نحجم عن اقتحام حقول الموت في شجاعة؟ كان علماؤنا في المساجد يحدثوننا أننا خير أمة أخرجت للناس، وكنت أنظر إلى تحكم الصينيين فينا، فأشعر أنا قد أصبحنا أمة مهانة، يؤرقها الذل، وثقل خطاها القيد الذميم، ويمحق كرامتها وإنسانيتها قوم لا يؤمنون بالله....

-                 ها أنا قدمة إليك.

-                 ما الذي أتى بك يا نجمة الليل؟

-                 أنت روحي وحياتي، رأيتك تضرب بسيفك يمينا ويسارا وتجادل الأبطال فذبت شوقا إليك.

-                 يا نجمة الليل ابحثي لك عن رجل آخر.

-                 أنت الذي أبحث عنه يا مصطفى..

وتطلعت إلى الليل الضارب، وما يخفق به من أسرار وذكريات وغمغمت:

-                 الليل يا نجمة يحمل أسرارا مهولة...

-                 هذا ليل المحبين الجميل..

اقتربت من، وأمسكت بيدي الباردة وهمست:

-                 وراءنا بستان القصر تفوح في جنباته الروائح الزكية..

-                 كنت أفكر بالأمس في الزواج، لأني لم أكن أجد عملا ذا قيمة أعمله..

-                 واليوم يا مصطفى حضرت؟

-                 أفراح الروح معلقة بالسماء.. بالجهاد الأعظم..

-                 هذا لا يمنع أن تضمني إليك.. نستطيع أن نحارب وأن ننجب الأطفال..

-                 يا نجمة الليل ليس الليلة معدنا..

-                 متى إذن؟؟

-                 شيء يعلمه الله...

 واجهتني بصراحة مؤلمة وقالت في غيظ:

-                 من أنتم؟ أتعتقدون أنكم قادرون على هزيمة ملايين الصينيين؟ دعنا نتزوج ونرحل عن هذه البلاد..

ضحكت في مرارة، أنا أعتصر كفها الصغير في غيظ:

-     أين البلاد التي يحلو لنا فيها المقام؟ الوباء قادم من الشرق، والموت يزحف من الغرب ونحن حيرى.. لا حياة لنا ولا موت إلا هنا..

-                 أنت تعيش بقلب ميت قبل أن يحين الموت.

-                 أنا أحيا متفرغا للمعركة..

-     والحرب يا مصطفى لا توقف أي شيء.. انظر.. الأزهار تنمو وتترعرع والحبالى تضع أطفالهن، والرعاة يغنون على سفوح الجبال، والناس تحصد وتزرع، وأنت كالراهب المتبتل يريد أن يجعل من الحرب والتفكير فيها صومعة يخلو لها..

كانت كلماتها قوية ومؤثرة، تورق بروعة الصدق، وتفوح من حروفها رائحة الحياة الحارة الجياشة، ووجدت العرق يتساقط على جبهتي، وشعرت بأن أعصابي المشدودة ترتخي رويدا رويدا، وأن عيناي تتطلعان إلى السفوح الخضراء يوشيها القمر الفضي، وتنفست من الهواء البارد الحلو بعمق، ثم تنهت قائلا:

-                 أنا أحبك يا نجمة الليل.

-                 ومتى يكون؟

-                 أقرب مما تتصورين..

-     وسمعت حركة وخيولا تركض، وعربات تقرقع، وأصواتا مختلطة، ورأيت أشباحا تتحرك هنا وهناك، وكنت على علم بأن اجتماعا كبيرا سوف يعقد لدراسة ما تم من أحداث كبار، وما سوف يتبع ذلك من رد فعل قد يجري أهوالا لا حصر لها..

-                 انصرفي يا نجمة الليل الآن..

ومضت في عتمة الظلمة تدرج كخيال لطيف له حفيف الملائكة، العيون الخضراء تضيء كجوهرتين، والوجه الأبيض الذي يفيض حيوية وجمالا يتألق في نور الابتسامة العذراء، صورتها لم تزل عالقة بقلبي وروحي رغم انسحابها صوب الباب الجانبي للقصر..

وعقد اجتماع كبير في قصر أمير قومول، حضره علية القوم من علماء ومفكرين وقادة عسكريين، كما اشترك فيه عدد كبير من المقاطعات الأخرى التابعة لتركستان الشرقية، وافتتح أمير قومول الحديث موضحا أن المعركة التي احتدمت بالأمس لم يكن هناك مفر منها، ولم يكن شعب تركستان – لا قمول وحدها- يرضى أن تداس تعاليمه الإسلامية، وقد رفض القائد الصيني التنازل عن القوانين التي أصدرها، ولم يكن هناك من وسيلة سوى الصدام الذي جرى، وقد يرى البعض أن الحركة التي قمنا بها ضربا من الحماقة إذ أننا لم نتحسب النتائج الخطيرة التي ستترتب عليها، لكن هل كان هناك بديل لها سوى الاستسلام؟؟

إن الاستسلام القديم جر علينا كثيرا من الكوارث، والمنهزم لا حدود لتنازلاته، ومن ثم كان لا بد من الضرب بشدة بصرف النظر عما قد يحدث من نتائج.. ورد أحد الجالسين معلقا بكلام يفهم منه أن ما وقع كان خطأ كبيرا، فليس لدى تركستان قوة تضارع قوة الصين، وإن ثمانية ملايين من أبناء تركستان لا يمكن أن يصمدوا أمام شعب الصين الذي يربو تعداده على أربعمائة مليون، ولذا كان من الممكن أن نرسل وفدا إلى الحاكم الصيني الأعلى، ونجري معه مفاوضات سلام لعلهم يخففون الوطأة ويلغون القوانين الجائرة التي تتعارض مع ديننا وكرامتنا، وما لا نستطيع أن نأخذه بالحرب كان من الجائز أن نحصل عليه بالسياسة، أعني المفاوضات.. ولقي هذا الكلام ترحيبا لدى بعض السياسيين القدامى الذين حضروا الاجتماع، واقترحوا أن يرسل وفد إلى الحاكم العام الصيني لتركستان الشرقية، غير أن خوجة نياز حاجي أشار بيده وقال في غضب:

-     أيها الرجال، إذا أرسلتم وفدا فلن يعود إليكم سوى أخبار ذبحه كما تذبح الشياه، ولن يغفر الصينيون لنا ما حدث لرجالهم في قومول، والرأي عندي أنه لا وسيلة سوى الحرب.. إننا نضيع الوقت عبثا إذا بقينا هكذا نبحث عن حل سلمي للأزمة، فلن ينسى الصينيون دماءهم، إنهم يقسون ويقتلون وينتقمون دونما سبب، فما بلكم وقد قضينا على أحد قادتهم هنا، ووارينا ضباطهم وجنودهم التراب..

ثم هب خوجة نياز حاجي واقفا، وصاح بأعلى صوته:

- سمعتكم تتحدثون عن الأربعمائة مليون صيني، كما لو كنتم حضرتم هذا الاجتماع بصفتكم وفدا عن الصين وليس جماعة من الفدائيين المسلمين، وإذا كنتم تقيسون الجيوش بعددها فوالله أن الإسلام ما كان لينتشر، وترفع راية الله في الأرض لو أن المسلمين الأوائل فكروا كما تفكرون، كأني بكم لم تقرؤوا قول العلي الأعلى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة:249) ولكي نكره خصومنا على احترام ديننا، فعلينا معشر المسلمين أن تتخذ القرآن إماما لنا، فإنه يكفل خير الدنيا والآخرة، والله ما تحكم الأعداء فينا وملكوا رقابنا إلا لأننا تنكرنا لديننا، ونبذنا قرآننا وراءنا ظهريا، وإني أعاهد الله على أني لن أضع سلاحي حتى ألقاه أو أنتقم لديني وبلادي، فمن كان أبواه مسلمين فليتبعني.

وخرج خوجة نياز حاجي من قصر الأمير، قاصدا إلى المخازن التي وضعت فيها أسلحة القتلى الصينيين، وسار الجميع وراءه..

كنت أمضي مع الحشد الثائر، وأرى مولد روح جديدة انبثقت وسط ظلمات اليأس المدلهمة، لم يعد أحد يفكر في جحافل الصينيين، كل رجل يسابق الآخر ليعثر على قطعة سلاح وكمية من الذخيرة.. وسقطت تحت أقدام المحاربين كل اعتبارات التفوق العددي والتفوق في الخيرة لدي الصين، العقلاء ظنوا ذلك ضربا من الجنون، والمتحمسون كانوا يتصورون أنه ليست هناك قوة على الأرض تستطيع أن توقف زحف الثوار والمؤمنون بالله إيمانا عميقا، يرون أن القتال قد فرض عليهم فرضا، وأن المعركة يجب أن تستمر، والعبرة بالسير إلى الأمام ومجادلة الكفرة والطغاة، أما النصر والهزيمة فأمرهما بيد الله، وبدا الموت سيئا لا يؤبه له...

وانحدر الرعاة بأغانيهم الشعبية من الجبال، وأتى الفلاحون بثيابهم الرثة حاملين أسلحتهم الصدئة يهللون ويكبرون، ونظرت من برج بأعلى القصر، فرأيت الطرق تموج بالبشر... وتألقت تحت عيني المآذن والقباب الخالدة التي بناها الأجداد العظماء... وبدت بلادنا الحبيبة بصباحها الذهبي، وجناتها الخضراء، ومبانيها الصامدة صورة من صور الخلود والقوة التي يحميها الله.. وهرولت نازلا.. وعند نهاية الدرج رأيتها:

-                 ماذا تريدين يا نجمة الليل؟

-                 قالت وقد تبللت الأهداب الجميلة بالدموع:

-                 هل أنت راحل؟

 كانت نبراتها تشي بالأحزان الثقيلة:

-                 أوتظنين أن مصطفى يبقى ليقدم الزاد للخيل، ويرعى الأغنام؟؟

-                 كلكم ذاهبون..

-                 نعم.. فلا معنى للحياة في ظل الهوان..

أطالت النظر إلي، ثم قالت:

-                 قلبي يحدثني بأنك لن تعود..

-                 لو كنت تحبينني حقا لفاض قلبك بالأمر..

-                 الحب الكبير يخالجه الخوف..

هززت رأسي قائلا:

- الخوف؟؟

- نعم.. لا أكذب عليك..

- الحب الحقيقي يا فتاتي لا تموت.. ولا يعتريه خوف .. إذا كان حبا ساميا فسيبقى سواء طوانا الموت أم كتبت لنا الحياة..

رفعت يدها وخبطت على ذراعي مداعبة:

-                 لم أذق بعد شيئا من الحب كباقي النساء..

وشردت ببصري إلى بعيد، كنت أغمغم: " الليالي التي قضيتها أفكر فيك كانت أياما جميلة، كان للحرمان والصدود معنى صوفي يرقص له قلبي.. آه لو تعلمين.. قلبي الآن يخفق في فرح.. أعرف أن ورائي قلبا كبيرا يمتلئ بالحب لي، وسيضئ خيالك في ظلمات المعارك المدلهمة.. سأدافع عن شرفك وشرفي.. الشرف جزء من العقيدة التي أنعم الله بها علينا وعندما نعود سنتزوج.. يا نجمة الليل عودي إلى أميرتك.. فهس الآن وحدها.. فقد خرج الرجال.. وخروج الرجال في هذا اليوم المشهود ذكرى رائعة يجب أن تغنوا وترقصوا لها.. حرب المبادئ يا نجمة الليل، تصنع الرجال.. فيصبحون رجالا حقيقيين.."