ليالى تركستان (11)

ليالى تركستان (11)

 
 

أحسست بقدر غير قليل من الراحة وأنا أقطع مغاور الجبال، وعلى القمم يقترب الإنسان من السماء، وتصفو الآفاق، وتزيد برودة الجو، أشعر أن صدري تتفتح شعبه اكثر وأكثر، أشعر بأني طائر تنقصه الأجنحة، ونجمة الليل تمضي إلى جواريأو خلفي على ظهر الجواد، لقد لفحت الشمس وجهها الشاحب فبدا أكثر سمرة واحمرارا، ها هي تعود إلى صورتها الماضية في قصر الأمير، إنها سعيدة مرحة ولكن في شيء من القسوة، أحست في الأيام الأولى ببعض الضيق، لعدم مقدرتها في أخذ حمام ساخن كالنظام التركي، شعرت بغير قليل من الاشمئزاز حينما لم تجد أدوات الزينة إلى جوارها، وربما آلمها ألا تجد الهامات التي كانت تنحني لها صباح مساء من علية القوم، فالناس في الجبال على الفطرة، والنسوة يشاركن الرجال في كل شيء يتعلق بالعمل، كانت البيئة الجديدة التي حولها لا شك جديدة، وبرغم تلك المضايقات التي ذكرتها إلا أنها كانت متحمة للتجربة، ولا تخفى سعاتها، ومن آن لآخر تكرر القصة، كيف قتلته... نظرات الرعب في عينيه، التوسل، الرجاء، والكلمات المستعطفة التي تنسكب من بين شفتيه.

كنت أدرك أنها فخورة أيما فخر بما فعلت، وبعد رحلة شاقة بلغنا جبال آلتاي.

هنا مقر الجنرال عثمان باتور البطل الذي دوخ الأعداء والذي استطاع أن يمسك ببعض الخونة من أبناء البلاد المتشيعين للعدو، وكان عثمان باتور صارم النظرات، طويل الشارب، كث اللحية، كبير الأنف لحد ما، وكان هادئ الحركة، وسيما قليل الكلام، عميق التفكير، إنني أعرفه جيدا، وأعرف الكثيرين من الرجال الذين يناضلون إلى جواره، وكان يلبس الملابس الثقيلة أو السميكة اتقاء للبرد القارس في الجبال، ما أعجب هؤلاء الرجال، كانوا يصمدون لعواصف الطبيعةومكائد الأعداء، ويجابهون الموت والمكاره بشجاعة منقطعة النظير طوال سنوات، وكان شعارهم الذي يهز الجبال "الله أكبر... الله أكبر" وكان بالجبل العديد من مراكز الثوار، فكنت أقضي مع هذا المركز أو ذاك فترة من الوقت، وأحكي لهم تفاصيل المذابح والاضطهاد التي يرتكبها الأعداء في حق المواطنين، وأشترك في بعض الهجمات أو العمليات الخاطفة، وكان هدفي في النهاية أن أكون قريبا من عثمان باتور، حيث مجموعتي الأصلية التي أنتمي إليها، وأعمل معها، وسألتقي هناك مع مصطفى درغا...

وأخيرا نفق منا الجواد، ولجأنا إلى قرية صغيرة في الجبال يسكنها بعض المزارعين والرعاة، كان الجو قد بدأ يميل إلى الدفء قليلا، وبقينا في هذه القرية بضع ليال...

قالت نجمة الليل:

-                 إلى متى المسير؟

-                 لعائدين.

-                 هذا مرهق.

-                 تلك هي الحرب.

-                 لا أعني ذلك.

-                 ماذا تريدين.

-                 آن أن نتزوج، إنك دائما لا تغتنم الفرص، أتذكر آخر لقاء لنا في قصر الأمير، ليتك فعلت....

أمسكت بيدها في حنان فأخذت يدي ولصقتها بخدها، وبقينا هكذا وقتا طويلا، ونظرت بعينين تفيضان رقة وحنانا.

-                 إلى متى نبقى هكذا؟

-                 لا شك أن بالقرية أحد العلماء.

-                 سأجري أبحث عنه.

-                 دعي هذا الأمر لي.

-                 إنني في قمة السعادة.

-                 نحن نغامر.

-                 ولم يا مصطفى؟

-                 أترى سنعيش حنى ننجب أولادا ويكبرون ونسعدهم؟

-                 دع الأمر لله.

كان زواجنا مختصرا جميلا، شاركنا فيه أهل القرية، فرقصت الفتيات، وغنى لنا الرعاة أغانيهم الجميلة، ودقت طبولهم الحلوة التي تهز القلوب، وأكلنا وشربنا، وقضينا عشرة أيام ممتعة كأنما اختلسناها من الزمن، وباعت نجمة الليل ما تمتلك من مجوهرات، واشترينا جوادين، واستأنفنا المسير.

-     هناك يا حبيبتي. الرجال الشجعان، سنعيش، إنهم مجتمع كامل بنسائه ورجاله وأطفاله، الكل لا يعرف شيئا سوى الحرب.

-     الحرب هنا معناها الحياة والحرية، الحرب فريضة في سبيل الله، وعندما ننتصر ونصبح سادة في بلادنا سنبأ حياة أجمل وأروع...

ابتسمت ونظرت إلى الآفاق التي توشحها الغيوم وقالت:

-                 أهناك أجمل وأروع من هذه الحياة التي نحياها الآن؟

-     نعم يا حبيبتي ... عندما يحل السلام، وترجع بلاد الإسلام للإسلام، ويفر الأعداء، عندذئ نستطيع أن ننعم بالحياة، ونكون سعداء حقا، إننا يجب أن نعيش لمعنى كبير، أكبر من الحب الذي بيني وبينك، ستكون تركستان كلها أغنية حب خالدة، وسنكون أنا وأنت وأمثالنا سر روعة الأغنية المقدسة، وسر خلودها، تلك هي الجنة على الأرض.