ليالى تركستان (12)
كنا على الجبال، وقال عثمان باتور في اجتماع حاشد بجبل آلتاي:
- أيها الرجال الصناديد...
"إن اليوم يوم عصيب ودقيق، ويتوقف عليه مستقبل بلادنا، ربما لأجيال، وصراعنا على هذه الأرض طويل، منذ طمع فينا قياصرة الروس، بتحريض من المتعصبين الأوروبيين ادعياء المسيحية، ومنذ امتد بصر الصينين من عشرات السنين إلى بلادنا العظيمة.. أرض البطولات.. والأمجاد .. والمعارك الإسلامية الخالدة.. منذ أن اجتزأ كل عدو قطعة من أرضنا، في غفلة من الأمراء والحكام اللاهين، لا أريد أن أتحدث أيهغا الرجال عن الماضي كثيرا، وإنما أردت أن أقول إن تحرير أرضنا لن يحققه لنا أحد، على أكتافنا وحدنا ينهض بناء الحرية، كذب علينا الروس حينما عرضوا لنا العون، وكذب علينا الصينيون حينما زوقوا لنا الأمنيات الحلوة في الحرية والاستقلال، وها أنتم ترون بلادكم تحكم بالحديد والنار، ويساق الآلاف إلى ساحات الإعدام، ويساق مئات الألوف إلى المعتقلات، لقد أبيدت أسر تركستانية بأسرها، وقادتنا العظام قادة التحرير لم يعاملوا كأسرى حرب عندما وقعوا في أيدي العدو، وإنما قتلوا أشنع قتلة، ولوثت سمعتهم وشرفهم، وهم خير من أنجبت أرضنا الطيبة، وهم الآن يحاولون خلق جيل مخدوع ضائع من أبنائنا في المقاطعات القرى والمدن، ويزعمون أنهم يريدون نشر العلم والتقدم في بلادنا."
"أيها الأبطال! إننا نحارب من أجل تحرير أرضنا، ونكره العدوان في ي صورة من صوره، وندافع عن ديننا الإسلامي الحنيف، وتراثنا الحضاري العريق.
إن حربنا اليوم جهاد في سبيل الله، وعلينا أن نضرب ضربتنا حتى تقصم ظهر العدو، وعندما نتحرر فسنكون أصدقاء للجميع، فبلادنا لا تعادي أحدا، ولا طمع في أحد، غنية بالخيرات والأمجاد يجب أن تكون لنا، ألسنا شعبا جديرا بالحرية؟ لقد يئس العدو من القضاء على حرب العصابات التي قمنا بها، قاموا بحملة فتك الأهالي وسطوا على الشعب بغيهم وانتقامهم، واليوم لا مناص من الحرب الشاملة الكبرى.."
ودوى الرجال بالهتاف والتكبير، وفي الأيام التالية أخذت الجموع تزحف زحفا كبيرا، كانت قوات العدو تتراجع في ذعر، وأصبحنا على بضعة أميال من أورومجي، فأخذت قوات الشعب تكيل الضربات لقوات العدو الباقية في التركستان الشرقية، وتراجعت تلك القوات إلى تركستان الغربية، وكشف تقهقر العدو عن حقائق عجيبة، كانت مختفية تحت وطأة الاحتلال، فقد ظهر فعلا من السجلات التي تركها العدو أثناء تقهقرهم أن هناك عائلات تركستانية بأكملها قد اختفت تماما، كما بلغ عدد المعتقلين في معسكرات الاعتقال ثلاثمائة ألف، وقد روى المعتقلون الذين أفرج عنهم بعد الانسحاب قصصا رهيبة من التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له في معسكرات الاعتقال، وكانت الصور التي رسمها هؤلاء المفرج عنهم مما تقشعر لهوله الأبدان، ولم يعثر أهل الضحايا على جثث شهدائهم فقد كانوا يخفونها ويعملون على إبادتها بوسائل عجيبة، وقد عثر بالمصادفة على جثتين في أحد المناجم المملوءة بالغازات الخانقة تبين فيما بعد أنهما للسيد خوجة نياز والجنرال شريف خان أحد قواده، كما حدث نتيجة للأمطار الشديدة أن انهارت عمارة تشغلها إدارة الاستخبارات (ج. ب. أو) والتي كان يعتمد عليها العدو في البطش بخصومهم، ووجد تحت أنقاض هذا المبنى هياكل بشرية بلغت ثلاثة آلاف هيكل، مما يدل على أنه كان يوجد تحت البناء المتهدم سجن لأفراد الشعب، وأنهم ماتوا فيه دون أن يعني أحد بأن يفتح لهم الباب أو يسأل عن مصيرهم، وخرج أبناء الشعب التركستاني من كل الطوائف ليشهدوا المأساة التي لا مثيل لها.
قالت نجمة الليل والدموع تنهمر من عينيها:
- كيف مات هؤلاء؟ إنني يا مصطفى لا أستطيع أن أستطرد في خيالاتي، أليس هذا منتهى القسوة؟ آه... الحجرات المظلمة.... الاستغاثات التي لا يلبيها أحد... الجوع.. الظمأ... السياط الخارقة... كان فيهم من يحلم بزوجة وأطفاله، وبفتاة وهبها قلبه.. يا إلهي! أيمكن أن يحدث هذا في العالم؟ لعنة الله على الأعداء، ماذا يريد منا هذا العدو؟ كيف يرجى خير من وراء قوم فعلوا هذا الفعل البشع؟ انظر الهياكل المتعانقة، إنهم ماتوا وهم يحتضنون بعضهم بعضا، وهناك هياكل ماتت ميتة القرفصاء، لا شك أن البرد كان شديدا، كانوا يتضرعون إلى الله وهم في أتعس الأوصاع، هؤلاء الذين عاشوا طلقاء في الغابات والجبال في بلادنا الجميلة يوتون على هذه الصور الرهيبة... اللعنة على الكافرين..
أمسكت بيدها قائلا:
- عندما يموت الإنسان لا يشعر بشيء بعدها، لا تعذبي نفسك.
- العذاب لنا نحن، ويجب أن نتألم، حتى تتولد في أعماقنا طاقة كراهية خالدة لكل الطغاة...
- عزيزتي، إننا نطاردهم في كل مكان..
وجففت نجمة الليل دموعها وقالت:
- يا مصطفى ، لا أستطيع الاستمرار في السير معكم.
- لماذا؟
- يبدو أن بين أحشائي جنينا.
نظرت إلى الهياكل المعثرة تحت الشمس والمطر، ونظرت إلى نجمة الليل ووجهها الشاحب المتألم، وهمست في أذنها:
- إذا رزقنا الله بولد فسوف نسميه خوجة نياز.
ابتسمت في مرارة وأخذتها غلى البيت الذي سنقيم فيه. وقلت:
سوف أرحل بعد أسبوع، إن مقاطعتي إيلي وآلتاي الغنيتين بالمعادن والثروات يجب أن ننتزعهما من أيدي العدو.
واستمرت المعارك القاسية، والأعداء يولون الأدبار، والتقى بنا عثمان باتور في لقاء خاص ضم عددا غير قليل من القادة، وقال:
- أيها الرجال! هل علمتم بما فعله الحاكم الصيني لتركستان؟
تركزت أبصارنا إليه، وقال بهدوئه المعهو:
- إنه يقبض على حلفائه.
كانت مفاجأة مذهلة وصحنا في صوت واحد:
- كيف؟
- لعبة السياسة والمصالح لعبة قذرة.
- لكنهم حلفاؤه وهم الذين أنقذوه.
- نعم أنقذوه ليملكوه، وليستغلوه ويستغلوا البلاد.. كان بملك ولا يحكم.
وكان واضحا ان الحاكم الصيني قد ضاق ذرعا بحلفائه ولم يستطع أن يفلت من أسر مستشاريهم وخبرائهم إلا بعد رحيل العدد الأكبر منهم، وبعد أن استطاعت قوات عثمان باتور أن تبدد جحافلهم وتفر هاربة، فانتهز الفرصة، واعتقل الرعايا الحلفاء، وأرسل لزعيمه يعتذر ويتأسف ويطلب منه العون ضدنا، إن الحاكم لا مبدأ له، وعلينا أن نستعد لجولة ديدة مع الصينيين بعد أن هزمنا حلفاءهم.
وأصدرت قيادتنا أمرا عاما بتكليف كل قادر على حمل السلاح بتقديم نفسه للاشتراك في تطهير البلاد من الجرذان الصينيين، ثم بعث عثمان باتور إنذارا إلى الحاكم الصيني وحدد له موعدا لمغادرة البلاد مع قواته، وإلا كان مصيرهم ميعا الهلاك المحقق.
كان الحاكم حائرا لا يدري ماذا يفعل، فقواتنا تحاصره من كل جانب ، والرسل التي أرسلها –ومنهم شقيقه- إلى عاصمتهم لم يأت عنها خبر، والشعب يتدافع إلى الموت من أجل الخلاص في ثورة عارمة تدعو إلى الفخر والإعجاب.
- ها نحن نلتقي مرة ثالثة يا مصطفى حضرت.
ونظرت فإذا بصديق العمر منصور درغا..
- آه يا منصور.. لشد ما تغيرت، إني أرى الشعرات البيضاء في رأسك، بالأحضان يا منصور.
لاحظت أن ذراعه اليسرى لا تتحرك، وأنه يدفع مدفعه بيده اليمنى، فاحتضنته في حب بالغ.
وعدت أنظر غليه، لقد ذهب الكثير من نضرة وجهه، ورأسه بدت صلعاء إلا من شعرات قليلة، لكن لحيته بقيت رمادية توحي بالإصرار العنيد، وفي عينيه حزن لا يريم...
- ما هي أخبارك يا منصور؟
- انتصرنا...
ضحكت، فلم يعد أحد يجهل هذه الحقيقة، وأدرك هو أن جوابه غير شاف.
- وحبيبتي الغجرية ماتت، ذبحوها كما تذبح الشاة في وليمة فاخرة، كانوا يتقاسمونها كالوحوش، كانت تصرخ وتدافع، الحيوانات المفترسة تعرف الرحمة، أما هم...
وأكمل وهو يلوح بسبابته:
- لا... لا... وانتشر خبر فراري من المعتقل، ليتني ما هربت، كان خيرا لي أن أكون أحد الهياكل التي عثروا عليها في مبنى المخابرات المنهار، تسألني لماذا؟ لقد بحثوا عني في كل مكان، ولأنهم فشلوا في العثور علي اختطفوا أسرتي كلها نساء ورجالا وأطفالا.. تسألني الآن مامصيرهم، فأقول بكل أسف.. ذهبوا..
ومعت عيناه:
- ذهبوا إلى من لا يظلم أحدا.
وجفف الدموع وتمتم:
- أتعتقد أني أسعد من هؤلاء الذين ذهبوا؟
أمسكت بيده وقلت:
- هيا بنا، فغن نجمة الليل كانت تريد أن تراك..
نظر إلي، كأنه يتذكر قصة قديمة عفا عليها النسيان:
- نجمة الليل؟
- نعم.. زوجتي.
- زوجتك؟...مستحيل... أنت تعرف..
ضحكت في ثقة وقلت:
- لقد اشتركت معي في عدة عمليات فدائية رائعة..
وكان يجلس إلى جوارنا صحفي جريح عاد لتوه وقال:
- أأنت مصطفى مراد حضرت؟
- نعم.
وضحك الصحفي في سعادة وقال:
- هنا منشور في أورومجي وفي آلتاي وكاشغر وقومول بخصوصكما..
- ماذا تعني؟
- مبلغ من الذهب لمن يقبض عليك أو على نجمة الليل سواء أكنتما أحياء أو أمواتا، إذا هو أنت؟ إن قصتك مادة صحفية رائعة.
ونظرت إلى كتفي، وأشرت إلى الصحفي الذي هتف مقهقها:
- نجمة الشرف الأولى.
- نعم يا صديقي من عثمان باتور.
- وحكم الحكم من الحاكم الصيني.. ما أعجب الدنيا؟
كان القمر يرسل أشعته الوانية، وإلى جواري منصور درغا.
غمغم منصور:
- مات أمير قومول، وأظنهم قتلوه، وتبدد الأمراء أو تحولوا إلى نماذج للشقاء والتعاسة، وانفرط نساؤهم في كل الأنحاء، الدنيا تموج وتفور بأحداث لا نهاية لها، لكأنما كتب علينا أن نقضي العمر محاربين..
- ليس هناك أشرف من الجهاد في سبيل الله، يا منصور..
- أعرف، لكني أحيانا أفيق إلى نفسي، واتذكر الأيام الجميلة والطفولة البريئة، والأهل والغدير، لماذا ذهب كل هذا؟ هل لا بد أن يشقى الإنسان حتى يبلغ ينابيع السعادة؟ وأين هي السعادة يا مصطفى؟ ها نحن ننتصر، لكن الأمر لكثرة الانتصارات والهزائم أصبح أمرا هينا، أحيانا ينتابني هذا الشعور... اعذرني... فقد فجعت في الإنسان كإنسان، لماذا تموت زوجتي؟ ولماذا يموت العجوز أبي؟ وتراق دماء أمي وإخوتي وعشيرتي؟ قيل لي إنهم كانوا يتمتمون ببضع آيات من القرآن، وكان أبي يعلو صوته بآية الكرسي، كان الجلادون يضحكون.. لماذا يضحكون؟ مصطفى.. أريد أن ألتقي بنجمة الليل، أريد أن أسألها كيف عاشت مع هؤلاء الوحوش؟ كيف آكلتهم وشاربتهم؟ أكانوا بشرا؟
أدركت أن منصور متألم لما أصابه وأصاب أهله، وأن نوبات الحزن التي تحل به من وقت لآخر تثير ثائرته، وتكاد تذهب بعقله.
فربت على كتفه في مودة وهمست:
- أتؤمن بالله؟
- نعم.
- انهمرت دموعه، ثم أخذ يغمغم:
- (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156)