ليالى تركستان (18)

ليالى تركستان (18)

 
 

 كل شيء من حولنا يتبدل ويتغير بسرعة، الناس والأشياء والأسلحة والمواقف وخريطة العالم، كثير من أولادنا ذابوا في خضم الهزيمة، أخذوا يلوون ألسنتهم بكلمات جديدة، وشعارات رنانة، والبنات- يا إلهي!- خرجن إلى الشوارع سافرات... تيار كاسح من المغالطات والفضائح والانحرافات يجرف كل شيء أمامه باسم التقدم، ألا يمكن أن يتقدم الناس ويتحضروا ون أن تتحيفهم المظالم، أو تسحق حرياتهم أو يساقوا سوقا كما تساق العبيد؟ ألكي يتعلموا لا بد أن يكفروا؟ لماذا لا يمشي التقدم معانقا العدالة والحرية، ولماذا لا يسير العالم يدا في يد ع الإيمان بخالق الكائنات، ولماذا لا تحدث نهضة دون أن تعري النساء أجساهن ودون أن يكثر البغايا والعابثات؟ لماذا لا تتصادق الشعوب دون أن يحاول شعب إفناء شعب آخر أو تبديده واكتساحه بالهجرة من ألوان وأجناس اخرى؟ إن ما أراه في تلك الأيام يبدو لي وكأنه من صنع الشياطين، وكنت أردد من آن لآخر لأصدقائي المحاربين أن الطهر والنقاء الثوري كل هذا يتعلق على سفوح الجبال، وكنت أنظر غلى عثمان باتور الجنرال المؤمن فيخيل إلي أنه بقية السلف الصالح.

إن هذا الرجل تتجمع فيه المعاني العريقة لجيل ينقرض، لحضارة طويلة فاضت بالخير والنبل والصفاء، وأنا وراء هذا الرجل حتى الموت، ودارت المعارك حامية الوطيس بين رجالنا والقوات الصينية المسلحة بأحدث الأسلحة، وانتصرنا في سلسلة من المعارك، ولكن هل كان انتصارنا سهلا؟... لا.. فإن مدد العدو لا ينفد وكان رجالنا دائما يتناقصون، كنا ننتصر بالتضحية التي لا مثيل لها، ويغمغم الجنرال عثمان باتور:

-                 رجالنا يتقمون ويندفعون إلى الموت.

-                 رجالنا يتقمون ويندفعون إلى الموت.

-                 سيدي الجنرال.. إنهم يعرفون ما يجب عمله..

-     الملحة التي يسطرونها يا مصطفى حضرت بمائهم ملحمة خالدة، لكني علمت اليوم من طلائعنا المتقمة أن العدو يجهز ليوم رهيب، ولم تمر إلا أيام قليلة، وفؤجئنا بالحشد الصيني الذي توقعه عثمان باتور، وظلت المعركة محتدمة الأوار ثلاثة أشهر كاملة، وقررنا الانسحاب نحو ولاية شينهاي الصينية لجمع الشمل وجعلها مركزا للهجوم على القوات المعادية، لكن الطريق إلى شينهاي لم يكن معبدا سهلا، فقد كان الموت يترصدنا في كل جانب، وتزعف علينا أكثر من عشرة آلاف جندي صيني من مدينة "آن سي شا" الصينية إحدى مدن "قانصو" وقد سيطر علينا شعور بالتفاني، وكأننا باندفاعنا الدامي مع العدو نريد الموت، أو نهرب إليه من المصير المحتوم، وتمكنا أخيرا من الوصول إلى مدينة ماخاي التابعة لولاية شينهاي.. كنا نريد أن نستريح بعض الوقت ونلتقط أنفاسنا.. وكنت أنا شخصيا أحاول البحث عن نجمة الليل وولدي...وكانت أمنيتي أن أراها قبل أن أموت، قد يرى البعض أنها أمنية تافهة في مثل هذه الأوقات العصيبة، وقد يرميني البعض بالأنانية لأنني أفكر في زوجتي وولدي على هذه الصورة والوطن برمته متعرض للضياع والفناء... أنا لا أكترث لما يقوله البعض، فقد تعلمت الصدق مع نفسي... وأنا بشر تعرف الدموع طريقها إلى عينيه، ويعرف الخفقان سبيله إلى قلبي..

-     المطاردة لم تخفت حدتها، هناك الآلاف يزحفون نحونا من مدينة "دون خان" إحدى مدن ولاية "قانصو"، وهناك آلاف آخرون يزحفون صوبنا من مدينة "شر خلق" المتاخمة لحود الصين..

وقال الجنرال عثمان باتور:

-     "الليل يزحف على "ماخاي" أيها الأصدقاء.. يا من فضلتم الموت على الحياة، الذئاب تسد مسالك الطريق يا شهداء العدوان، وأرى الرايات قد لونت الأفق، في كل يوم يسوق الجزارون خرافا للذبح، هم لا يفرقون بين الخراف والبشر، والطريق الذي قطعناه أيها الرفاق من "باريكول" أو من الجبل إلى هنا، ترصفه عظام الأحرار، وترويه ماؤهم الزكية، يا طول الرحلة المرهقة!! وكثير من النساء والأطفال يفرون في كل اتجاه يبحثون عنا.. عن ذويهم.. وإذاعة أورومجي أيها الأصدقاء تردد الأناشيد الحماسية للأعداء وتسمم الأفكار، وأبناء شعبي المسجونون في الشوارع والبيوت ومصانع السخرة والمساقون إلى الحدود والمنفى وساحات الإعدام يتمتمون بأصوات خافتة، يجأرون إلى الله، ويردون ترانيم الموت، هؤلاء الشهداء الأحياء أتعس مصيرا من الذين يموتون في المعركة، أيها الأصدقاء سندخل المعركة، ومن يبقى منكم حيا فليحمل قصة جهادنا وعذابنا الطويل للأمم المسلمة النائمة في الجنوب وفي الشرق والمغرب العربي.. وفي إندونيسيا والهند وباكستان،.. وقولوا لهم إن الأندلس الثانية قد سقطت في قبضة عدو الله والإنسان.. ومن يدري لعل المسلمين يتيقظون في يوم من الأيام ويجمعون شتاتهم، وتكون لهم معركة كبرى ينتصرون فيها لله... قولوا للمسلمين في أطراف الأرض لا تصدقوا صحف العدو، ولا تثقوا في تاريخه وفلسفته ودعوته".

وتطلع عثمان باتور إلى السماء، واتجه صوب القبلة ودعانا للصلاة..

وفي اليوم التالي اندفعت جموع الأعداء صوبنا من كل حدب..

واحتدمت المعركة... واندمجنا في المعركة الأخيرة بكل ما ملك من إحساس وقوة وإيمان وانتهى كل شيء..

سقط الجنرال عثمان باتور في يد الأعداء... وشهته من فوق شرف عال يسير مرفوع الرأس، كان الأعداء يجبون أكمامه، وغطاء رأسه ومعطفه، ويداعبونه مداعبات الموت، لكنه كان صامدا يتطلع إليهم في أنفة، أو يركلهم في ازدراء..

تفرق المحاربون –أو البقية الباقية منهم- في كل اتجاه.. ثم كانت وجهة كل واحد منهم صوب الحدود أملا في الوصول إلى كشمير، وسيق الجنرال عثمان باتور إلى ساحة الإعدام.. كما سيق تسعون ألفا من التركستانيين والصينيين تحت تهديد السلاح ليشهدوا نهاية البطل.. ومات البطل عثمان باتور..

كنت مندسا بين الصفوف لا يعرفني أحد، فقد ارتديت ملابس محاربي مدينة "دون خان" إمعانا في التخفي، كنت أنظر إلى البطل الشهيد وأنا أضحك في هيستريا، وعيناي مبللتان بالدموع، وأصرخ كالمجنون: يحيا العدل!

وفي الليل الأسود القاسي القلب توجهت إلى إلى الطريق.. طريق الهاربين من الجحيم، وبعد ليال قاسية مضنية بلغت حدود كشمير.. ووجدت بقية الباقية هناك.. لم يبق من العشرين ألفا سوى ثلاثمائة... لأن العدو طوال الطريق كان يناوش الفارين وينقض عليهم، ويطاردهم بنيرانه في معارك سنكرس وكتساو وغيرهما من مدن التيبت، وخسر العدو خسائر فادحة، وأخيرا تبقى منا عند الحدود حوالي الثلاثمائة.. وخلوا كشمير.. وتوافد علينا خلق كثير من المهاجرين التركستانيين، واختلط الجميع.. كنت في أمس الحاجة إلى النوم، لم أستطع المقاومة .. وأغفيت.. ولا أدري هل طال الوقت أم قصر.. لكني تيقظت قبيل المغرب على يد حانية تهزني برفق، وفتحت عيني...

هل أنا في حلم أم يقظة.. يا إلهي! ها هي نجمة الليل ترتدي زيا مشابها لزي نساء كشمير.. وطفلي الكبير إلى جوارها ، إنني أعرفه جيدا .. هذا الفتى الجميل الذي أظهرت الشمس بشرته الشقراء..وأخذت أتحسس رأس الطفل، وأربت على وجه نمة الليل، والدموع تملأ عيني، لم أستطع الكلام فقد خنقتني الدموع، وزوجتي هي الأخرى كانت تنتفض من الانفعال، وتضمني إلى صدرها، وولدي يطوقني بكلتا يديه...

-     لم أكن أتصور أن تنجو من الموت يا مصطفى.. إن الشيب قد صبغ شعرك والتجاعيد ملأت وجهك.. لكأنما مر على فراقنا مائة عام..

قبلت الطفل في حنان، وهمست بنرات راعشة:

-                 لكم يحزنني أن أترك شعبي المسلم السجين خلف الحدود يقتسمه الأعداء..

وهمست نجمة الليل وقد ازداد وجهها شحوبا، واكتسى بحزن وقور:

-                 إن أمنيتي أن نرحل إلى بيت الله الحرام.. ولنعش في مكة أو المدينة..

وتطلعت عبر الآفاق المعتمة ورائي، وتذكرت منصور درغا الذي مات على باب المسجد، وتذكرت الرفاق المؤمنين الذين قضوا حياتهم وراء القضبان، ثم الشهداء الذين سقطوا حول الجنرال عثمان باتور، ويوم المشهد العظيم حينما ساقوا الجنرال إلى ساة الموت..

وغمغمت:

-     سوف نسير إلى بيت الله الحرام.. إن قطرات من ماء زمزم قد ترد روح الضائعين والمتعبين.. إني أتخيل وأنا أصرخ في جموع الحجيج مبشرا بيوم الخلاص.. وكأني بملايين المسلمين يشقون الأكفان، وينطلقون تحت راية التوحيد ليحرروا من جديد ملايين العبيد..

تلك هي قصتي...

 
 

انتهى

ليالى تركستان (16)

ليالى تركستان (16)

 
 

تمتم منصور درغا قائلا في حزن:

-     نحن كالغريق، يظل يقاوم بذراعيه قوى الموت، ويضرب ويضعف ويدفع الأمواج في وهن، ثم يغوص، وهناك في المجاهل المظلمة في أعماق البحر يودع الحياة في صمت وحزن، آه..يا مصطفى حضرت، نحن هكذا.. أترى سيذكرنا أحد بعد الموت؟

كان منصور درغا يتكلم، ويحاول أن يمثل دور الغريق وهو جالس إلى جواري، ويسبح متوهما بحماس بالغ، ثم ألقى سؤاله الأخير وهو يلهث وكأنه يقاوم الأمواج حقيقة..

ووجدتني أجيبه قائلا:

-                 ما قيمة أن يكرنا أحد؟

قال والجد يرتسم على وجهه:

-                 لذلك قيمة كبرى.

-                 ما هي؟

-                 إذا نسينا الناس فمعنى ذلك أن القضية الشريفة التي نناضل من أجلها قد ماتت..

وأخذت أهز كتفي وأقول:

-                 القضايا لا تموت بموت الرجال.

ضحك منصور في سخرية وقال:

-     لا قضايا بدون رجال، مات خوجة نياز، ومات الجنرال شريف خان ومات أمير قومول... نحن لسنا أمراء ولا جنرالات، لكن القضية حية، انتظر لا تقاطعني، وماتت زوجتي الأولى، وتزوجت أرملة غيرها، القضية لم تزل حية، لكن وا أسفاه! ما زلنا نقاوم الأمواج، أترى سنبلغ شاطئ الأمان أو ستأتي سفينة النجاة.. أم نلاقي الموت في الأعماق السواد الصامتة؟

ومانت آلتاي في أيدينا وعثمان باتور يعد العدة، ويجند الجنود، والثوار يهرولون إلينا من كل مكان يحتله العدو أو يسيطر عليه الخونة، وأخذ ينضم إلينا التجار الذين أفلسوا والأغنياء الذين سلبهم الفقراء أموالهم، والفقراء الذين يسخرون لشق الطرق أو بناء السكك الحديدية دون أجر سوى أن يأخذوا وجبة طعام، والعلماء الذين أذيقوا العذاب والسخرية ألوانا.

وذات يوم جاؤوا بجنودهم.

هذا ما كان يتوقعه عثمان باتور، جاؤوا هذه المرة بأعداد كبيرة، زحفزا على آلتاي كالسيل الجارف، ومعهم عدد وآلات، وكانت المعركة عنيفة دامية، خسروا كثيرا وخسرنا كثيرا، لكنهم استولوا ثانية على آلتاي، وعدنا مرة ثانية إلى الجبال وشعابها، واتخذنا باريكول قاعدة لانسحابنا، وكان عثمان باتور يقول:

-                 النضال حتى الموت.

ابتسم منصور درغا، وكانت الدماء ينزف من رأسي، أخذ يضمد لي جراحي ويقول:

-                 لكأنما نموت موتا بطيئا.

-                 ألا تؤمن بالبعث؟

طاف منصور بنظراته الساهمة عبر الآفاق البعيدة التي يوشحها السكون البارد، وقال:

-     إنني أؤمن بالبعث، لكننا نبعث في الآخرة يا صديقي، وقلوبنا صافية كالنبق الرقراق، لن يبعث معنا حقدنا، إنني أحقد على الأعداء أشد الحقد، عندما يتوارى هذا الحقد، فلسوف أفقد لذة كبرى، إنني ادعو الله أن أبعث حاقدا، هؤلاء الشياطين ارتكبوا من الموبقات ما لا يصدق،  آه يا مصطفى.. قد أخذ بعض رجالنا أسرى أثناء إحدى المعارك، أتتذكر؟ ربطوهم في عجلات الدبابات .. أتذكر؟ كانوا يتبارون في تصويب الرصاص إلى آذانهم وعيونهم، أتذكر؟ كانوا يسخرون ويقولون : اشنقوا آخر ثائر بأمعاء آخر جندي، بقد شنقوا بعض العلماء الثوار فعلا بأمعاء أحد جنرالاتنا.. أيمكن أن تسمى هؤلاء بشرا؟

كانت وطأة الهويمة على أنفسنا قاسية، وكان الأصدقاء قد تحالفوا مع الحاكم الصيني الجديد، على استئصال شأفتنا، وأخذنا نتطلع يمنة ويسرة فلا نجد صديقا ولا حليفا، قال عثمان باتور وهو ينظر إلى السماء ويشير بسبابته:

-                 إنه معنا...

وهتف الرجال المرهقون الذين ينزفون ويتألمون : "الله أكبر".

وقال منصور درغا ذات أصيل:

-     سوف نذهب إلى أعماق الجبال، وقد نرجع إلى المدينة أو لا نرجع، ما رأيك في أن نقوم بجولة صغيرة؟ أريد أن أطمئن على زوجتي، وأنت الا تريد أن رؤية ولدك وزوجتك؟

الحقيقة أنني كنت في أشد الشوق إلى رؤية نجمة الليل وطفلي الذي كبر، لكننا مطاردون...ثوار.. وإذا سقطنا في أيدي العدو فمعنى ذلك الموت لا محالة، وهتفت في قلق:

-                 المدينة تبدو لنا وكأنها حقل من حقول الموت.

-     أتخاف الموت يا مصطفى؟ هيا بنا.. سوف نتخفى.. وسنرى الدنيا الجديدة التي شكلها المعتون، في المدينة سنرى الرايات، والشعارات، سنرى المدينة تنشد قصيدة رثاء ووداع، المدن كالبشر يا مصطفى تحزن وتتألم، وتترنم بالشعر، وتلطم خدودها، المدينة كائن حي، كائن بشري... صدقني..

ونخترق الطريق الطويل بلا هويات، أحيانا نلبس زي الرعاة وأحيانا نبدو متسولين نستجدي لقمة العيش، وفي بعض الأوقات نشترك مع عمال الشحن والبناء، أو نشترك في مظاهرة صاخبة تهتف، أو نأخذ دورنا في رجم أحد الثوار الخونة الشرفاء، لكننا لم نكن حريصين أن تسقط أحجارنا عليه، كنا في وسط الضجيج نضرب الأحجار في رؤوس الجنود سواء أكانوا أعداء أو تركستانيين خونة، اختلط الحابل بالنابل وسادت البلاد فوضى من نوع غريب، المصاحف وتفاسير القرآن، وكتب الحديث وخاصة كتاب الإمام البخاري جدنا العظيم وغيرها من كتب الفقه والتوحيد، كثير منه ممزق وملقى في الشوارع، والجنود يشعلون فيه النار ليستدفؤوا من شدة البرد..

وأخيرا وبعد ليال شاقة مضنية وصلنا إلى المنزل الذي تقيم فيه زوجة منصور درغا، كنا قبيل المغرب بقليل، وخل منصور أولا.. ووجدته يضحك بصوت عال كاد يستلقي على قفاه:

-                 تعال وانظر يا مصطفى.. المرأة خلعت برقع الحياء.

-                 وسمعتها تقول بصوت يخالطه البكاء:

-     لعنة الله على الشياطين! لقد مزقوا قناعي في الشارع وفعلوا ذلك مع كل امرأة تسير محجبة، واختطفوا عباءتي، وأشعلوا فيها النار، بل أمسكوا بثوبي وأعملوا فيه المقص حتى يصير قصيرا، وتصير أكمامه أيضا قصيرة، إنهم يريدون لنا التقدم والحضارة.

كان منظر الأرملة في ثوبها القصير الأسود، وأكماما التي تقترب من إبطها، وشعرها المتهدل، يعطي انطباعا في قلبي لا أنساه، إنه مشهد يضحك ويحزن في نفس الوقت...

وأمسك منصور بزوجته وقال:

-                 هذه هي تركستان الجديدة.

كانت المرأة تشعر بالخجل، وتبكي ف حرارة، لكن منصور ضمها إليه في حنان وقال:

-     لا تحزني يا حبيبتي، لن نبقى هنا طويلا، سنذهب إلى حيث تلبس النساء ما تشاء، وفي الجبل يا حبيبتي لا توجد مصاحف ممزقة، ولا يستطيع أحد أن يدوس صحيح البخاري.

وتركت منصور درغا على أمل اللقاء به في الغد، كنت أشعر بشوق جارف نحن نجمة الليل والطفل الحبيب، الذي يستطيع الآن أن يجري ويلعب ويناديني باسمي.. لكم أحب هذا الولد الجميل المرح..

الليل في المدينة يوحي بالخوف والخطر، والتجول ممنوع حتى الفجر، والمدينة امتلأت بوجوه كثيرة لم تكن فيها من قبل نساء ورجالا وأطفالا، صدق ما سمعناه أن الأعداء يقومون بهجرة واسعة إلى تركستان، وفي نفس الوقت يأخذون مئات اللوف من أبناء تركستان الأصليين، ويهبون بهم إلى بعيد، ويستولون على المنشآت والمتاجر والمزارع، ويبنون للمهاجرين الجدد بيوتا ومؤسسات، وأماكن للدعارة أيضا، قوافل الفتيات الصينيات ملأت البلاد باسم الحرية والتحرر، والكتب الصغيرة بمختلف اللغات تملأ المدارس والأندية والشوارع، إنها كتب خصيصا لبلادنا، وهي تتحدث عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتذكر أبطالا لم نسمع بهم قط، وتصور عثمان باتور وخوجة نياز والرئيس علي خان بصورة اللصوص وقطاع الطرق، وتجعل من الحاكم الجديد التتري المهاجر غلى بلادنا الذي أصبح مكان الرئيس علي، والذي يتغنى بمجدهم تجعل منه البطل القومي محرر الشعب، ورفيق التقدم، وأبا الأحرار ... هذه ليست المدينة التي أعرفها، لا الرجال رجالها، ولا الأطفال أطفالها، وهؤلاء النساء العاريات الكاسيات لسن نساءها...

وأخيرا ذهبت إلى الجهة التي كانت تعيش فيه زوجتي... قلبي الحزين يدق فرحا بلقاء الأم والطفل، عندما انظر إلى وجه نجمة الليل أشعر براحة كبرى، وطرقت الباب طرقات خفيفة، وسمعت وقع خطوات ثقيلة، وعندما فتح الباب كدت أصعق...

- من أنت؟

نظر إلي بعينين محتنقتين، ووجه مكتنز شديد الحمرة، وخصلات من شعر رأسه يخالطها قليل من الشيب، وبقايا حساء تبدو قطراتها عالقة بشاربه الكث، وقال:

-                 ألا تعرف من أنا؟ الكل يعرفني، أنا زعيم العمال الذين قبضوا على كبار الثوار.

كان واضحا انه جاهل لا يعرف شيئا من التعليم، وعلى الرغم من أنه يتكلم بلغة البلاد إلا أن وجهه كان غريبا، وسحنته كذلك، وهذه الغلظة التي فيه ، ونظرة الكراهية التي تطل من عينيه..

- يبدو أنك أخطأت الطريق.

قالها ثم صفق الباب.

آه.. والدار لو كلمتنا ذات أخبار.. واضح أنه احتلال من نوع صغير.. ودخلني رعب مبهم، أين ذهبت زوجتي وولدي؟ يجب أن اتصرف بروية وهدوء وإلا قبض علي، وعندما أساق إلى سجن أو معتقل فلن أخرج منه طوال حياتي، وبرغم القلق الذي يسيطر على روحي، والثورة العارمة التي تحرق قلبي إلا أني اعتصمت بالصبر والهدوء، وأخذت أتجول في الحي القديم الي بدا نصفه مهدما، فقراء المنطقة يعرفني بعضهم ويعرفون ولدي وزوجتي، وهناك قريب عجوز كان يعمل خادما في مسجد، والحلاق الذي يقع دكانه على ناصية الشارع أعرفه جيدا، إنه يحلق لولدي شعره الذهبي، ليته محتفظ بخصلة من شعره الحبيب، لكن المسجد مغلق، ولا أكاد أرى أحدا من المعارف، وذهبت إلى الحلاق، كان يحلق لأحد الرجال، نظر إلي من طرفه، والتقت عيناي بعينيه، وهممت أن أحييه تحية الود القديم،لكمه سرعان ما أغمض عينيه، لم يكترث لوجودي، وبدا أنه غير راغب في محادثتي، وفكرت، ماذا أفعل، حسنا، فلأجلس على هذا المقعد الخشبي العتيق، وليكن ما يكون، ولاحظت أن الحلاق يسرع في عمله، وأخيرا تقاضى أجره، وانصرف الزبون، وأشار إلي، فقد جلست مكان الرجل الي انصرف.

-                 ماذا جرى يا عم عبد الخالق؟

-                 قال وهو يزاول عمله في رأسي الكث:

ما الذي أتى بك إلى هنا؟ إن رجال عثمان باتور إذا قبض عليهم يقتلون فورا، كيف دخلت المدينة؟ يجب أن ترحل بأسرع ما يمكن وإلا فقدت حياتك.

وقلت في سخرية:

-                 ماذا يجري؟

-                 لست أدري ولكني حلاق يريد أن يعيش.

-                 أين ذهبت نجمة الليل؟

-                 هربت.

-                 والتفت إليه في دهشة:

-                 أخذت الطفل وتسللت دون أن اعرف عنها شيئا.

دارت الأرض، المقص يصدر أصواتا سريعة تزيد من توتر أعصابي، وأدرك عبد الخالق ما أعانيه من أحزان وحنق أثار جنوني.

-                 تصرف بحكمة يا مصطفى، نحن في زمان تعس لا يعرف الرحمة، ولا يعرف الله.

قلت بصوت كالفحيح:

-                 أين ذهبت زوجتي؟

-                 يرجح أنها اتخذت طريقها غلى قومول.

-                 ولماذا قومول بالذات؟

-     هذا إذا بلغت قومول سالمة، الأسر تناثرت في كل مكان، البلاد امتت إليها أيدي أسطورية ضخمة تلهو بجماهير الناس وتخلطهم وتعتصرهم، وتبعثرهم يمينا وشمالا، لا أدري ماذا أقول، وكيف أعبر، خير لك أن ترحل عن هذه المقاطعة فقد سقطت نهائيا في أيدي العدو.

-                 مستحيل.

ساد وجهه الشحوب وارتبك وقال:

-     لا ترفع صوتك يا مصطفى، نحن شعب صغير يأتيه البلاء من كل مكان، ويحاصره الرعب من جميع الجهات الأربع، قضيت فترة تحت يدي عبدالخالق، وقبل أن أنصرف من دكانه وضع على صدري شارة العدو وهو يقول:

-                 هذه الشارة ستوفر عليك الكثير من المتاعب.

انتزعتها من فوق صدري، ثم قذفتها وسط الشعر المتناثر المقصوص وبصقت عليها وسحقتها بحذائي، وانصرفت، أين أذهب؟ أنا في وطني كالغريب، أرض ليست لي، أصدقاء يهربون، وزوجتي غرقت في خضم الأحداث الكبار، فلأعد إلى منصور درغا لأقضي عنده الليلة.

عندما دخلت إلى بيت منصور، وجدته يجلس في ناحية وزوجته في مقابلته، والطعام لم تلمسه يد..

وهشا لمجيئي المباغت، ونظر إلي منصور في حزن فقلت له:

-                 لم أجد أحدا.

هز رأسه وقال:

-                 لقد رحلت هي وطفلها إذن؟

-                 نعم، ولا يدري أحد إلى أين...

-                 قال منصور وقد اختنق وجهه وارتجف شاربه:

-                 هذا أفضل.

لم أفهم ماذا يعني، لكنه قال والحسرة تتقطع قلبه:

-                 ألا تدري؟ لقد أفلتت زوجتي من الضياع والموت، لكنها دفعت الثمن.

-                 أي ثمن؟

-                 كانت تستضيف الأعداء، هل فهمت؟ لقد حضروا.. رأيتهم يدخلوان البيت سكارى.. هل فهمت؟

-     أنا اختبأت كالفأر المذعور في أحد الأركان حتىلا يقتلني أحدهم، وهي.. هي .. زوجتي أخذت تمازحهم وتقبلهم، . من أجلي.. هكذا قالت.. تكلمي أيتها المومس الفاضلة؟

قالت وهي تتشنج عاليا:

-     أردت أن اموت، لكني جبنت، اغتصبوني عنوة.. لم أكن أعرف لي مكانا آوي إليه، لماذا لا تأخذني إليك يا ربي؟ ارحمني يا منصور، إنهم فعلوا نفس الشيء ببنات العلماء الكبراء وزوجاتهم، إنني لا أتصور أنني أرى الحقيقة، يخيل إلي دائما أني أحلم.

وقال منصور درغا والدموع تبلل أهدابه، ولكنه كان يحاول أن يمزح زاحا مرعبا:

-     حسنا سوف نقضي ليلتنا هنا كضيوف شرفاء، لديك أبتها المومس الفاضلة، غدا نرحل، أنت طالق... وأنت...ماذا أقول؟ على من يقع اللوم؟

وتطلع إلى الأرض والسماء وإلي، ثم أخذ يقهقه كمجنون.

ليالى تركستان (15)

ليالى تركستان (15)

 
 

 
 

ساد لغط كبير في أنحاء البلاد أبان الاستعدادات للاستفتاء الكبير وتقرير المصير، ووجدت خلافات جذرية بين السياسيين والمفكرين، لكن ثقل الحلفاء أعطى التغييرات الداخلية اتجاهات خاصة ومؤتمرات معينة، فقد طفا على السطح أولئك البرجال الذين يمتدحون موقف الحلفاء ومدهم لتركستان الشرقية بالسلاح، كانت وحدة النضال تجميع قلوب الرجال على معنى واحد هو التحرير وعودة البلاد إلى حظيرة الإسلام والحرية، ونتيجة للمفاوضات التي أجريت تقرر تعيين جانجي القائد العام لشمال غرب الصين حاكما عاما لتركستان الشرقية، يعاونه ثلاثة من التركستانيين هم: أحمد جان، وبرهان شهيدي، (نائبا للحاكم) وليومون شون سكيرتيرا للحاكم العام، وكانت مهمة هؤلاء الأربعة هي العمل علىإجراء الانتخابات التي نصت عليها المعاهدة، وتهامس الناس، إن الرجال الثلاثة من أعوان الحلفاء، لقد باعوا انفسهم للشيطان، ولكن الدعاية حاولت أن تبعد عنهم هذه الشبهات، وحاولت تصويرهم بصورة الأبطال، القوميين الذين لعبوا أدوارا من أجل تحرير البلاد أبان محنتها، كما ساعدوا على مد الثوار بالسلاح مما جعل الثورة الشعبية تحقق أهداقها على صورة رائعة، ومع ذلك فقد أخذت البلاد تستعد للانتخابات، الآن رأي الشعب هو الرأي الحاسم، ولن يستطيع أحد أن يخدع هؤلاء الثور المحاربين الذين ظلوا سنوات طويلة يتصدون للعدو، ويحطمون من محاولاته المستمرة للقضاء على استقلال البلاد، وفي هذه الأثناء فوجئنا بالدولة الحليفة تحاول السيطرة على المقاطعات الثلاث: إيلي، وآلتاي وتشوشك، كن الرئيشس علي خان وقف وأعلن على الملأ:

-     إننا لن نفرط في ذرة من تراب الوطن، ولن نسمح بالتدخل في الولايات الثلاث.. ونحن على استعداد لاستئناف القتال ضدهم إذا لم ينسحبوا.

- وغرقت البلاد في جو من الدسائس والفتن.

تمتم الجنرال عثمان باتور.

 فرد الرئيس عي خان قائلا:

- العالم مشغول عنا بتضميد جراح البشرية.

- انتهت حربنا ولم تنته..

اقترب الرئيس علي خان من عثمان باتور وقال:

-                 يا جنرال ! عد إلى قواتك.. واستعد.

أدركت ما يعتمل في الأفق السياسي من تحركات مريبة، فقلت لزوجتي:

-                 نجمة الليل! لقد حان الرحيل..

-                 إلى أورومجي...

-                 لا أريد الذهاب إليها، إن ذكرياتها تؤلمني.

-                 إذن إلى قومول..

-                 وقومول هي الأخرى فيها افتراءات قديمة قد تجلب لي ولك المتاعب.

-                 أتوافقين على الذهاب إلى كاشغر؟

-                 لا بأس.

-                 وهناك ستعيشين مع الطفل، أما أنا فذاهب إلى الجبال.

-                 الأيام المريرة تعود، والصديق يريد الثمن.

وكان الرئيس علي خان يجلس في قصر الرئاسة مع زوجه وذويه والليل خارج القصر ساكن هادئ، والناس في بيوتهم يسمرون ويتحدثون عن الانتخابات المقبلة والعهد الجديد، وتدهم القصر فئة من الشبيبة حاملين السلاح، تعلن عيونهم وملامحهم عن الغدر والخيانة:

-                 ماذا تريدون؟

-                 قم معنا.

-                 أنسيتم أنني الرئيس؟

-                 نحن نعرف، وليس أمامنا من وسيلة سوى إطلاق الرصاص إذا لم ترافقنا.

اختفى الشيخ علي خان، وأخذ الناس يتهامسون، لماذا لم يعد يظهر كالعهد به في صلاة الجمعة، ولماذا لم يعد يلتق برفاق السلاح الذين قادهم بالأمس وأحرز معهم الانتصارات البارعة ضد الصينيين، وكثر اللغط والجدل حول مصير الشيخ علي، لكن بيانا رسميا يصدر عن الحكومة تعلن فيه أن الحاكم الرئيس علي خان سافر للاستشفاء...

وفؤجئ الناس بالاتخبارات من جديد، لقد اندسوا في الشوارع والمزارع والمصانع، وأخذوا يعتقلون المناوئين في الولايات الثلاثة التي طمع فيها الصديق، وصدر قرار بتعيين أحمد جان التركستاني المعروف رئيسا على المقاطعات الثلاثة: إيلي وآلتاي وتشوشك.

وعندما قدمت القوات لاحتلال آلتاي برز الجنرال عثمان باتور برجاله وتصدى للقوات وبدأت الحرب..

كان العدو أكثر عدد وعدة، ومن ثم لجأ الجنرال عثمان باتور إلى منطقة غوجن واعتصم بالجبال المنيعة هناك.

عقب المعركة جاء منصور درغا يعرج، نظرت إليه وبكيت:

-                 ماذا جرى؟

قال في سخرية مرة:

-     في كل مرة أفقد شيئا عزيزا علي، يوما ما فقدت ذراعي، ومرة فقد زوجتي الحبيبة، في أيام السلام القصيرة تزوجت أرملة في آلتاي، ترى ما مصيرها الآن؟ وقد أصيبت ساقي اليمنى برصاصة، مع أني ما زلت أحمل السلاح الذي عاونونا به... ما هذا العجب الذي نراه في دنيانا الغريبة؟

وارتمى إلى جواري يلهث، أخذ الماء وكأنه لم يشرب منذ أسبوع، ثم انحنى على ضمادة ساقه وأخذ يعيد إحكامه وينقي عنها الغبار والطين..

ثم تطلع إلى الأفق الدامي عند غروب الشمس وقال:

-                 كلما نظرت إلى الأصيل تذكرت الآخرة، الأصيل يوحي إلي بالنهاية...

-                 لم هذه الأحزان يا منصور؟

-                 تستطيع أن تطلق علي من الآن فصاعدا المهزوم..

ثم أخذ يغني أغنية شعبية تركستانية قديمة:

الليل يا حبيبتي مرصع بالنجوم..

ينوح كالأسير في غياهب الوجوم..

كوجه غانية..

سوداء قاتمة..

من ساحل العبيد..

حليها رخيصة..

لكنها تضئ..

عيناي لم تزالا تهمسان بالنشيد...

بوجهك المضئ..

يا حبيبتي لكنما لقاؤنا محال..

فرحتي ترف في مجاهل التلال..

 
 

قلت مازحا:

-                 إن حبيبتك أرملة قد تخطت الأربعين، ولا شك أنها تغط في نوم عميق الآن..

التفت إلي منصور في أسى وقال:

-     ألم أقل لك؟ ها قد فعلوها وفصلوا الولايات الثلاث وهم الآن يعيشون في باقي الولايات، يبعثرون نفوذهم في كاشغر وأورومجي، وقنصلياتهم تشتري الرجال، وتخطف الرجال، لقد اشتروا حتى الذهب والفضة فارتفعت الأسعار... أتعلم ذلك؟ إنهم يفسدون الاقتصاد والسياسة والفكر والدين، وذمم المواطنين أيضا.

كانت المنطقة التي لجأنا إليها حصينة حقا، فلم يكن أحد بقادر على مداهمتنا فيها لوعورة مسالكها، وكل مجموعة دفعها العدو إلينا استطعنا أن نبيدها إبادة تامة، وأصبحت لنا اليد الطولى في تنسيق العمليات الجربية، وتنظيم حرب العصابات، وكانت سلطة العدو تحاول جاهدة أن تصدر البيانات الكاذبة.. عثمان باتور قاد عملية بارعة، وزحفنا حشودا ضخمة صوب آلتاي، واستطعنا احتلالها وطردنا العدو وفر أذنابه والخونة، وفرض الجنرال باتور سيطرته على المقاطعة مرة ثانية..

ويومها ابتسم منصور درغا وقال:

-                 هذا حظ أرملتي الحسناء، أوشكت أن تترمل مرتين.

ودخلنا المدينة وجرت النسوة المحجبات يستقبلن الجنرال بالأغاني وخرج الرجال بالهتافات المدوية، والأطفال بالأناشيد الحماسية، كلما حققنا شيئا من النصر يظهر وجه بلادنا الحقيقي تغمره الفرحة تضئ المآذن وينطلق منها التكبير والتسبيح لله.

أشعر أن آباءنا الأقدمين الفارابي والبيروني والبخاري وابن سينا أشعر وكأنهم يلبسون عمائمهم ويقفون على مشارف الطرق يحيون جهادنا، ويرحبون بمقدمنا..

أشعر أن المجد القديم كله يبعث من جديد، فيمتلئ بالثقة وتفيض روحي بالأمل...

ليالى تركستان (14)

ليالى تركستان (14)

 
 

 
 

وأخيرا أرسل الزعيم النجدة المكونة من ست فرق انتحارية مجهزة بأحدث أسلحة، وعندما حاولت الفرق الستعبور حدود تركستان تصدت لها قوات الحدود، فأرادت القوات الصينية أن تخدعها، وتقدم قائد الفرق الصينية من القائد التركستاني وقال:

-                 إننا لم نجئ إلا لتأديب الحاكم الذي انحاز وتشيع مع حلفائه، ولا نريد سوى تطهير بلادكم منهم.

قال القائد التركستاني ساخرا:

-                 فلتطهروا بلادكم أولا.

-     تاكد يا سيدي أننا قادرون على تطهير أرضنامنهم ومن قائدكم أيضا، نحن نعرفه جيدا، إننا نعتصم باللإسلام وهو خير درع ضد أي غزو.

قال القائد الصيني:

-                 إن وقوفكم في وجه قواتي يعطي الأعداء فرصة أكبر.

-                 أنتم أيضا أعداء.

-                 لسوف يفتك بكم الحاكم.

-                 إنه محاصر في أورومجي، ولن يستطيع الهروب.

-                 حسنا.. لسوف نعود من حيث أتينا، ولنترك لكم هذا الخطر الداهم كي تعالجوه بأنفسكم.

ولم تمر أيام قليلة حتى ظهرت الخدعة، وتقدمت الفرق الانتحارية الصينية على حين غرة، وداهمت حرس الحدود، وكان عددهم قليلا جدا بالقياس على عدد القوات الصينية الزاحفة، إنها معركة غير متكافئةجعلت الصينيين يعبرون الحدود، وعانت هذه الفرق ما عانت من مقاومة الأهالي، وفقدت الكثير من القتلى واستطاعت بعد جهاد مرير أن تقترب من ؟أورومجيحيث يقيم الحاكم الصيني كالسجين، إذ كان تحاصره قوات عثمان باتور النظامية، عندئذ أعلن الحاكم الصيني عن تخليه عن حلفائه تماما، فأتت جموع صينية جديدة تزحف كالنمل، لتواجه عثمان باتور وقواته:

قال عثمان باتور:

-                 أيها الرجال! أنا لم أيأس بع.

-                 لا قبل لنا أيها الجنرال بهذه الحشود الصينية التي لا أول لها ولا آخر.

ابتسم عثمان باتور في ثقة.

-                 إلى القلب الحنون... إلى الجبل.

-                 كيف؟

-                 ن هناك سنبدأ من جديد يا مصطفى حضرت.

-                 سيدي..

-     أعرف ما تقول، تريد أن تستمر المعركة حول أورومجي، في الإمكان أن نصمد حتى الموت، هذا شيء عظيم، الأعظم منه أن نبقى أحياء ونطهر أرض الإسلام منهم.. أعلن في الرجال العودة إلى الجبال.

وعدنا إلى الجبال نحمل جراحنا وقتلانا وأحزاننا، لم يستبد بنا اليأس، كنا فرحين لأننا أذقنا العدو الأمرين، وكبدناه الكثير من الضحايا، لقد دفع الثمن غاليا، ونحن لم تنكسر شوكتنا، أو تخمد عزائمنا، وأشرف الجبل من جديد بوجوه الرجال الصابرين الصامدين، وعادت صفوف الصلاة والتكبيرات تحوم في الآفاق العالية وأخذت المناورات تستأنف من جديد، الأمر المضحك أن الزعيم أصدر أمرا بعزل صديقه الحاكم الذي استنجد به، وعين مكانه صينيا آخر حاكما عاما على التركستان الشرقية، وابتسم عثمان باتور وقال:

-                 من لا يملك يجود على من لا يستحق، كأن بلادنا مزرعة خاصة لهم.

كان الحاكم الجديد شرسا عصبيا، وأراد أن يثبت أنه جدير بمنصبه الجديد، لقد اتخذ خطوة قمع قاسية خبيثة، وكان أبشع ما في هذه الخطة هو أنه أصدر أمرا بالقبض على الطبقة المثقفة في تركستان وخاصة الكتاب والشعراء والعلماء، حتى أولئك الذين لم يحملوا السلاح من قبل، وأقام مذبحة رهيبة ترددت أنباؤها الفظيعة في كل أنحاء البلاد.

ويومها ساد جو الجبل وجوم حزين، وقال منصور درغا:

-                 المجرم يحاول قتل روح الأمة.

قلت في أسى:

-                 حملة الفكر تذبحون كما تذبح الشاة.

-                 نعم، الدين والفكر الأصيل هما وجدان الشعب، الطاغية الخبيث ضرب ضربة في الصميم.

وقال منصور درغا وهو يبكي:

-                 أعرف شاعرا طالما تغنى بالانتثار وآمال الغد..

-                 وأعرف عالما فذا أفاض على الشباب أبان المعمعة بتحليلات ودراسات إسلامية مذهلة.

-                 حتى فتية المدارس الصغار الذين كانوا ينشدون الأشعار في المظاهرات ساقوهم إلى ساحة الموت.

وجاءت نجمة الليل تحمل على كتفيها طفلا صغيرا لا يكف عن الصياح وهي تهدهده في رقة وقالت:

-     لماذا بقي هؤلاء المثقفون هناك، المثقف الذي لا يحمل السلاح ويأتي إلى الجبل لاستئناف المعركة ليس حقيقيا..

قلت في أسى:

-إن هؤلاء المثقفين لهم عذرهم، وشعبنا في كل مكان في حاجة إليهم وإلى كلماتهم، إنهم يؤدون نفس الدور الذي يؤديه حملة السلاح على سفوح الجبال، بل ربما يكون دورهم أخطر، ولهذا ترين يا عزيزتي أن العدو الصيني ساقهم إلى الموت قبل غيرهم، لأنه يعرف خطرهم.

وبدأت حرب العصابات من جديد، وبدا للصينيين أن المعركة لم تنته بعد، وفي كل ساعة ينحدر الرجال من الجبال ليقوموا بعملياتهم الانتحارية، ويختطفوا الغزاة، ويدمروا منشآتهم، ويبددوا المن الذي ظنوه حقيقة واقعة، وتحول النصر الصيني إلى آلام وتضحيات وعذابات مستمرة.

وفي الوقت نفسه ثورة شعبية أخرى في مقاطعة إيلي، يتزعمها وطني مخلص، وهو عالم إسلامي كبير اسمه علي خان الذي استطاع بعد معارك عنيفة مع الصينيين أن يستولى على مقاطعة ويحررها، وأصبح الشيخ علي خان رئيسا لجمهورية تركستان الشرقية الإسلامية، وكان الجنرال عثمان باتور قد انضم إليه هو ورجاله، وبفضل خبرة هذا القائد الهمام عثمان تم الاستيلاء على مقاطعتي آلتاي وتشوشك، وتكبد العدو الصيني خشائر فادحة في الأموال والأرواح، وأصدر رئيس الجمهورية الشيخ علي خان أمرا بتعيين الجنرال عثمان باتور واليا على مقاطعة آلتاي.

ولم يكن الشيخ علي يستطيع تحقيق هذا النصر إلا بعون كاف من السلاح الذي جاءه من الروس دون إملاء أية شروط سوى تطهير التركستان الشرقية من الغزو الصيني، لم يكن من اليسير أن يستسلم الصينيون بين يوم وليلة، بل ظلوا يقاومون في استماتة، وكثر عدد الجيش الإسلامي التركستاني، وانتعشت آمال الأمة بعد مفاح وعناء شديدين....

لكن منصور درغا قال:

-                 ها نحن ننتصر، ولكني خائف.

قلت في ثقة:

-                 لا معنى للخوف، ولقد جربنا أن النصر تصنعه سواعدنا.

قال منصور درغا ساخرا:

-                 وما قيمة سواعدنا بدون سلاح؟

أدركت أنه يعني معونة السلاح الذي جاءه للشيخ علي خان، إن منصور يشك، ويخاف على بلدنا الصغير أن يعود إلى اللعبة المحزنة، لعبة الكرة التي تتداولها أقدام الأقوياء.

-                 إن العالم يتغير يا منصور.

هز كتفيه قائلا:

-                 بل إن المنتصرين امتلأوا غرورا وغطرسة.

-                 سوف يتحول احتلال البلاد إلى شيء آخر.

-                 ماذا تعني يا مصطفى؟

-                 أني الصداقة هي بديل للاحتلال، ولا مانع من أن نكون أصدقاء للذين ساعدونا.

نظر منصور إلى الطفلي الصغير وقال:

-                 إنني أنظر إلى طفلك الصغير، أتعلم أنني حزين من أجله؟

-                 لماذا؟

-     أنت تظن أننا وحدنا مارسنا حياة الأخطار والأهوال، لكني أؤكد لك أن ابنك وجيله سيكون أتعس منا.

قالت نجمة الليل وهي تلف ولدها في حب وتضمه إلى صدرها في خوف:

-                 لا تقل هذا الكلام عن ولدي.

وضحكت، وضحك منصور، لكنه عاد يقول:

-                 الصينيون المنهزمون طلبوا الصلح.

-                 لقد رفضناه.

استدار نحوي وقال:

-     هل تعلم أن الدولة التي تمدنا بالسلاح ضغطت على رئيس الجمهورية كي يقبل الصلح والمفاوضات؟

قلت في حدة:

-                 على أي أساس؟

هز منصور كتفيه وقال:

-     على أساس استقلالنا، وأريد أن أقول إن رغبة تلك الدولة كانت أقوى من الرغبة الشعبية، أردنا انسحابا غير مشروط للذينيين وهزيمة كاملة لهم، وأرادت تلك شيئا آخر.. المعنى لا يخفى عليك.

قالت نجمة الليل وهي تهدهد طفلها:

-     لقد عاد السلام الذي طالما حلمنا به، ونحن نعود إلى مدننا وبيوتنا وننعم ببعض الراحة، إني أرى المستقبل رائع.

لوح منصور درغا بيده قائلا ثم مال على أذني هامسا:

-                 عثمان باتور كان رافضا للمقترحات.. إن استقلالنا استقلال ذاتي.

قلت في ضيق:

-                 سيرحل الصينيون، وهذا هو المهم.

هز كتفيه مرة أخرى وقال:

-                 من يدري.

ليالى تركستان (13)

ليالى تركستان (13)


 


 

كور قبضته، وزم شفتيه، وصرخ في جنون:

-                 تسحقني الإرادة اليائسة.

هذا ما قاله خاكم تركستان الأكبر، واستطرد في سخط:

-     كان علي أن أعتمد على خلفائنا أو على مساعدة الصين لكي أحمي سلطاني من ثورة الشعب التركستاني، ما وقفت قط وحدي واستطعت أن أنجز أي انتصار.. ما معنى ذلك؟ معناه أن أبقى طول حياتي متكئا على ذراع حليفي، لذالك لم أشعر قط بالراحة أو التنسم بيرح السعادة.

رد أحد الجنرالات الصينيين الكبار قائلا:

-                 لم نفكر قط في أن نتخذ شعب التركستان الشرقية صديقا.

-     هذا مستحيل، الغازي والمهزوم لا يمكن أن يكونا صديقين، كل مرة كنت أحاول أن أسكت المقاومة بالعنف والقسوة... لم يكن هناك طريق آخر.. لست ساذجا، إنني أفعل ما أعتقد أنه صواب لا غير، انظر.. الجبال حولنا تمطرنا بالرصاص والرجال، بعد انهيار العون من حلفائنا، وإذا لم يف زعيمنا بوعده فستسقط أورومجي، وسنذبح هنا في أشهر مذبحة عرفتها أرض تركستان..

-     وعاد الحاكم إلى استراحته الخاصة، كان ثائرا منفعلا، وجلس وحده يفكر، ولا يدري أطال به الوقت أم قصر، لكنه عندما رفع رأسه وجد فتاته تقف وفي يدها زجاجة وكأسان، وتمتم في دهشة:

-                 منذ متى وأنت واقفة هكذا:

-                 حوالي نصف ساعة.

-                 يا إلهي! ولماذا لم تتكلمي، لشد ما يعذبني صمتك.

كانت فتاة تركستانية مرغمة على أن تعيش مع الحاكم على الرغم منها، كانت تحمي بذلك نفسها وأسرتها، ليست هي الفتاة الأولى ولكنها هنا منذ شهور، إن الرئيس لم يكلمها بعد، هي صامتة دائما، كان المفروض أن يطردها، لكن صمتها كان يحلو له، كل النساء ثرثارات، أما هذه فلا تكاد تفتح فمها إلا لتجيب على سؤال في أقل كلمات ممكنة، وقال لها:

-                 إذا رحلنا من هنا فهل تبقين أم ستأتين معي؟

-                 إنني طوع أمرك يا سيدي.

يبدو أنها لم تفهم ما يرمي إليه.

-                 حسنا .. قد يهزمنا التركستانيون عندئذ...

ولم يكمل حديثه، لكنها نظرت إليه، وقالت بسذاجة:

-                 عندئذ ستنجو بنفسك يا سيدي، ولن تفكر بامرأة مثلي.

-                 لماذا؟

-                 النساء كثيرا على طول الطريق، وأنا من أكون؟

هز رأسه وقال:

-                 ستبقين هنا إذن؟

أجابت بكل هدوء:

-                 نعم، حتى يأتي أهلي ويأخذوني.

أطاح بالزجاج والكأسين بضربة واحدة وصرخ:

-                 كلكم تعيشون معي بلا قلوب.

-                 إنني لا أفهم ما تتكلم عنه، أتراني قصرت في واجبي؟

-                 أنا لا أتكلم عن الواجب يا حمقاء..

-                 عم تتكلم إذن يا سيدي؟

-                 عن الحب..

-                 نظرت في بلاهة ولم تتكلم...

"الحياة كلها يسودها الخوف، والناس هنا يتحركون بدافع الخوف أو المصلحة، حتى الجنود الصينيون في المعركة، عندما يشعرون أن حياتهم في خطر، يركعون على الأرض ويهتفون مستغيثين ويطلبون الشفاعة من التركستانيين، وبعضهم يهرب بحياته للإسلام، ويعتنق دين الأعداء التركستانيين، والحلفاء يعانونني ويرسلون جيوشهم بثمن.. إما أن يسيطروا على السلطة أو يستولوا علىالمواد الخام أو يكسبوا أنصارا لهم، وأنا نفسي لم يتقدموا لمساعدتي إلا بعد أن أعلنت ولائي لهم..."

والتفت مرة ثانية إلى الفتاة:

-                 اذهبي إلى الجحيم.

-                 أخرج من القصر؟

-                 ألا تعرفين الجحيم؟

-                 الجحيم... الجحيم... لا أعرف مكانه بالضبط، ولكني أستطيع أن أسأل...

قهقه في سخرية وهتف:

-                 انصرفي يا حمقاء..

وعندما همت بالانصراف، عادت إليه تقول:

-                 تذكرت يا سيدي، الجحيم هنا، في الآخرة حيث يأوي الأشرار والكفرة وأعداء الله..

استرخى على المقعد، ونظر إليها بعينين ذاهلتين وقال:

-                 اذهبي إلى هناك.

-                 لكني لم أمت بعد.

وراح في سبات عميق، كان غطيطه يدل على أنه لم ينم منذ ليلتين، وبقيت الفتاة واقفة، ثم أفاق على ضجة ونظر، فإذا بها واقفة:

-                 من أي داهية أتيت؟

-     جئت من أقصى الشمال، من أطراف سيبريا.. هل نسيت يا سيدي ، كنت أقدم لك الكؤوس والفواكه في إحدى زياراتك .. أعجبت بي.. وبقية القصة أنت تعرفها.. إذا رحلت أنت من هنا، فسأذهب إلى الشمال، وأبحث عن أبي وأمي.

-     كانت جميلة فاتنة غير متعلمة،جرها إلى المقعد، وأجلسها على ركبتيه، وأخذ يربت على شعرها في تدله، ويلامس أنفها الرقيق وشفتيها الدسمتين، وعينيها الواسعتين ثم يقبلها وكأنه في حلم وردي وتمتم:

-     الحاكم لم يصلح لشيء، لقد ذهب الشباب والحب بعد أن زال السلطان والنفوذ، لقد نسيت اسمك ولم أعد أذكر إلا خيالات باهتة يحتضنها الماضي التي تختلط فيه الابتسامات بالموع.. والحرب دائما.. ولا شيء غير الحرب..

دقت دقات على الباب، فتنحني الفتاة وتخرج، ويدخل ضابط أركان حرب:

-     سيدي، النجدة لم تصل، والتركستانيون المسلمون يحاصرون أورومجي، والمعارك الدامية تدور خارج المدينة ، لم نحرز أي تقدم.

-                 ادفعوا بالمزيد من الرجال.

-                 ألا تفكر في الانسحاب؟

-                 الانسحاب حماقة، إذا فكرنا وانسحبنا أتدريماذا تكون النتيجة؟

-                 ماذا؟

-     سيختطفنا المسلمون من كل جانب، سيقضون علينا من كل صوب، ونخسر المعركة بكل تأكيد، وسنموت جميعا، أورومجي محصنة، وتستطيع أن تصمد لفترة طويلة، ليس هناك من وسيلة سوى الصمود حتى الموت.. أو تأتي النجدة.. اخرج وأبلغ القيادة بذلك.

-                 تلعثم الضابط وقال:

-                 إن الإنذار الذي أرسله عثمان باتور يؤكد سلامتنا إذا رحلنا.

ضحك وقال:

-                 أنا لا أثق في وعود المحاربين.

-                 لماذا؟ إنهم لا يكذبون يا سيدي.

-                 قهقه وقال:

-                 إننا خدعناهم ألف مرة.

-                 لكنهم...

قاطعه الحاكم قائلا:

-                 انصرف، المقاومة حتى النهاية، لا انسحاب ولا تسليم.

وانصرف الضابط، وبقي الحاكم وحده يعاني من ضيق ووساوس لا حد لها، وعندما يقترب القائد من حافة اليأس لا يصح أن يستسلم، بل يجب أن ينتحر، وأفضل وسيلة للانتحار أن يقذف بنفسه في أتون المعركة، هذا ما أفكر فيه، لقد أرسلت أخي إلى عاصمة الصين، ولن يعود أخي خالية الوفاض، إن الزعيم لن يترك تركستان الشرقية تفلت من أيدينا.. معنى ذلك أن يبتلعها حلفاؤنا، النجدة لا بد آتية.

وبينما هو منهمك في أفكارهإذ عادت الفتاة الصامتة مرة ثانية تحمل إليه بعض الطعام وزجاجة أخرى من الخمر، وبعد أن وضعت الطعام أمامه قالت:

-                 سيدي.أريد أن أرحل.

نظر إليها في دهشة وقال:

-                 لماذا؟

-                 إنني هنا خائفة، والحرب تقترب.

قهقه وقال:

-                 نعم.

-                 وما قيمة أن تموتي أو تعيشي؟

-                 لا أريد أن أموت.

-                 ألا يكفيأن تكوني في جواري؟

-                 أنت سيد كبير وأنا مجرد جارية أو خادمة .

نظر إليها في غيظ،كان يحبها ويلذ له وجهها وصمتها وسذاجتها، لقد ضاق ذرعا بأنواع كثيرة من النساء، لقد جرب المتعلمات، وجرب الفنانات، وعاشر وجرب الصينيات المهاجرات إلى أرضه الجديدة، مل الجميع، ولكن هذه البلهاء لم يزل لها في قلبه منزلة أسيرة، لماذا؟ لا يدري.. للقلب أحكامه الخاصة.

ونظر إليها نظرة أخرى بعد أن خف غيظه وقال:

-                 ماذا تتمنين من الحياة؟

-                 أن أعود إلى أهلي.. حيث المراعي.. و..

قاطعها قائلا:

- ألا تريدين البقاء معي؟ سأغمرك بالذهب والطعام والملابس والحماية...

أخذت تبكي وتنتحب، فصرخ فيها محتدا:

-                 لسوف أشوي جلدك بالسياط أيتها المتمردة.

جففت عينيها في ذعر، وقالت:

-                 ما فكرت في أن أسيء إليك.

-                 وسأسوق أهلك إلى سجن أسود لا يخرجون منه..

فانكبت على قدميه باكية وقالت:

-                 الرحمة، إنني أعتذر عما بدر مني خطأ.

-                 اذهبي.

-                 فخرجت ترتجف كطائر بلله المطر في ليلة باردة ليلاء..

ليالى تركستان (12)

ليالى تركستان (12)


 


 

كنا على الجبال، وقال عثمان باتور في اجتماع حاشد بجبل آلتاي:

-                 أيها الرجال الصناديد...

"إن اليوم يوم عصيب ودقيق، ويتوقف عليه مستقبل بلادنا، ربما لأجيال، وصراعنا على هذه الأرض طويل، منذ طمع فينا قياصرة الروس، بتحريض من المتعصبين الأوروبيين ادعياء المسيحية، ومنذ امتد بصر الصينين من عشرات السنين إلى بلادنا العظيمة.. أرض البطولات.. والأمجاد .. والمعارك الإسلامية الخالدة.. منذ أن اجتزأ كل عدو قطعة من أرضنا، في غفلة من الأمراء والحكام اللاهين، لا أريد أن أتحدث أيهغا الرجال عن الماضي كثيرا، وإنما أردت أن أقول إن تحرير أرضنا لن يحققه لنا أحد، على أكتافنا وحدنا ينهض بناء الحرية، كذب علينا الروس حينما عرضوا لنا العون، وكذب علينا الصينيون حينما زوقوا لنا الأمنيات الحلوة في الحرية والاستقلال، وها أنتم ترون بلادكم تحكم بالحديد والنار، ويساق الآلاف إلى ساحات الإعدام، ويساق مئات الألوف إلى المعتقلات، لقد أبيدت أسر تركستانية بأسرها، وقادتنا العظام قادة التحرير لم يعاملوا كأسرى حرب عندما وقعوا في أيدي العدو، وإنما قتلوا أشنع قتلة، ولوثت سمعتهم وشرفهم، وهم خير من أنجبت أرضنا الطيبة، وهم الآن يحاولون خلق جيل مخدوع ضائع من أبنائنا في المقاطعات القرى والمدن، ويزعمون أنهم يريدون نشر العلم والتقدم في بلادنا."

"أيها الأبطال! إننا نحارب من أجل تحرير أرضنا، ونكره العدوان في ي صورة من صوره، وندافع عن ديننا الإسلامي الحنيف، وتراثنا الحضاري العريق.

إن حربنا اليوم جهاد في سبيل الله، وعلينا أن نضرب ضربتنا حتى تقصم ظهر العدو، وعندما نتحرر فسنكون أصدقاء للجميع، فبلادنا لا تعادي أحدا، ولا طمع في أحد، غنية بالخيرات والأمجاد يجب أن تكون لنا، ألسنا شعبا جديرا بالحرية؟ لقد يئس العدو من القضاء على حرب العصابات التي قمنا بها، قاموا بحملة فتك الأهالي وسطوا على الشعب بغيهم وانتقامهم، واليوم لا مناص من الحرب الشاملة الكبرى.."

ودوى الرجال بالهتاف والتكبير، وفي الأيام التالية أخذت الجموع تزحف زحفا كبيرا، كانت قوات العدو تتراجع في ذعر، وأصبحنا على بضعة أميال من أورومجي، فأخذت قوات الشعب تكيل الضربات لقوات العدو الباقية في التركستان الشرقية، وتراجعت تلك القوات إلى تركستان الغربية، وكشف تقهقر العدو عن حقائق عجيبة، كانت مختفية تحت وطأة الاحتلال، فقد ظهر فعلا من السجلات التي تركها العدو أثناء تقهقرهم أن هناك عائلات تركستانية بأكملها قد اختفت تماما، كما بلغ عدد المعتقلين في معسكرات الاعتقال ثلاثمائة ألف، وقد روى المعتقلون الذين أفرج عنهم بعد الانسحاب قصصا رهيبة من التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له في معسكرات الاعتقال، وكانت الصور التي رسمها هؤلاء المفرج عنهم مما تقشعر لهوله الأبدان، ولم يعثر أهل الضحايا على جثث شهدائهم فقد كانوا يخفونها ويعملون على إبادتها بوسائل عجيبة، وقد عثر بالمصادفة على جثتين في أحد المناجم المملوءة بالغازات الخانقة تبين فيما بعد أنهما للسيد خوجة نياز والجنرال شريف خان أحد قواده، كما حدث نتيجة للأمطار الشديدة أن انهارت عمارة تشغلها إدارة الاستخبارات (ج. ب. أو) والتي كان يعتمد عليها العدو في البطش بخصومهم، ووجد تحت أنقاض هذا المبنى هياكل بشرية بلغت ثلاثة آلاف هيكل، مما يدل على أنه كان يوجد تحت البناء المتهدم سجن لأفراد الشعب، وأنهم ماتوا فيه دون أن يعني أحد بأن يفتح لهم الباب أو يسأل عن مصيرهم، وخرج أبناء الشعب التركستاني من كل الطوائف ليشهدوا المأساة التي لا مثيل لها.

قالت نجمة الليل والدموع تنهمر من عينيها:

-     كيف مات هؤلاء؟ إنني يا مصطفى لا أستطيع أن أستطرد في خيالاتي، أليس هذا منتهى القسوة؟ آه... الحجرات المظلمة.... الاستغاثات التي لا يلبيها أحد... الجوع.. الظمأ... السياط الخارقة... كان فيهم من يحلم بزوجة وأطفاله، وبفتاة وهبها قلبه.. يا إلهي! أيمكن أن يحدث هذا في العالم؟ لعنة الله على الأعداء، ماذا يريد منا هذا العدو؟ كيف يرجى خير من وراء قوم فعلوا هذا الفعل البشع؟ انظر الهياكل المتعانقة، إنهم ماتوا وهم يحتضنون بعضهم بعضا، وهناك هياكل ماتت ميتة القرفصاء، لا شك أن البرد كان شديدا، كانوا يتضرعون إلى الله وهم في أتعس الأوصاع، هؤلاء الذين عاشوا طلقاء في الغابات والجبال في بلادنا الجميلة يوتون على هذه الصور الرهيبة... اللعنة على الكافرين..

أمسكت بيدها قائلا:

-                 عندما يموت الإنسان لا يشعر بشيء بعدها، لا تعذبي نفسك.

-                 العذاب لنا نحن، ويجب أن نتألم، حتى تتولد في أعماقنا طاقة كراهية خالدة لكل الطغاة...

-                 عزيزتي، إننا نطاردهم في كل مكان..

وجففت نجمة الليل دموعها وقالت:

-                 يا مصطفى ، لا أستطيع الاستمرار في السير معكم.

-                 لماذا؟

-                 يبدو أن بين أحشائي جنينا.

نظرت إلى الهياكل المعثرة تحت الشمس والمطر، ونظرت إلى نجمة الليل ووجهها الشاحب المتألم، وهمست في أذنها:

-                 إذا رزقنا الله بولد فسوف نسميه خوجة نياز.

ابتسمت في مرارة وأخذتها غلى البيت الذي سنقيم فيه. وقلت:

سوف أرحل بعد أسبوع، إن مقاطعتي إيلي وآلتاي الغنيتين بالمعادن والثروات يجب أن ننتزعهما من أيدي العدو.

واستمرت المعارك القاسية، والأعداء يولون الأدبار، والتقى بنا عثمان باتور في لقاء خاص ضم عددا غير قليل من القادة، وقال:

-                 أيها الرجال! هل علمتم بما فعله الحاكم الصيني لتركستان؟

تركزت أبصارنا إليه، وقال بهدوئه المعهو:

-                 إنه يقبض على حلفائه.

كانت مفاجأة مذهلة وصحنا في صوت واحد:

-                 كيف؟

-                 لعبة السياسة والمصالح لعبة قذرة.

-                 لكنهم حلفاؤه وهم الذين أنقذوه.

-                 نعم أنقذوه ليملكوه، وليستغلوه ويستغلوا البلاد.. كان بملك ولا يحكم.

وكان واضحا ان الحاكم الصيني قد ضاق ذرعا بحلفائه ولم يستطع أن يفلت من أسر مستشاريهم وخبرائهم إلا بعد رحيل العدد الأكبر منهم، وبعد أن استطاعت قوات عثمان باتور أن تبدد جحافلهم وتفر هاربة، فانتهز الفرصة، واعتقل الرعايا الحلفاء، وأرسل لزعيمه يعتذر ويتأسف ويطلب منه العون ضدنا، إن الحاكم لا مبدأ له، وعلينا أن نستعد لجولة ديدة مع الصينيين بعد أن هزمنا حلفاءهم.

وأصدرت قيادتنا أمرا عاما بتكليف كل قادر على حمل السلاح بتقديم نفسه للاشتراك في تطهير البلاد من الجرذان الصينيين، ثم بعث عثمان باتور إنذارا إلى الحاكم الصيني وحدد له موعدا لمغادرة البلاد مع قواته، وإلا كان مصيرهم ميعا الهلاك المحقق.

كان الحاكم حائرا لا يدري ماذا يفعل، فقواتنا تحاصره من كل جانب ، والرسل التي أرسلها –ومنهم شقيقه- إلى عاصمتهم لم يأت عنها خبر، والشعب يتدافع إلى الموت من أجل الخلاص في ثورة عارمة تدعو إلى الفخر والإعجاب.

-                 ها نحن نلتقي مرة ثالثة يا مصطفى حضرت.

ونظرت فإذا بصديق العمر منصور درغا..

-                 آه يا منصور.. لشد ما تغيرت، إني أرى الشعرات البيضاء في رأسك، بالأحضان يا منصور.

لاحظت أن ذراعه اليسرى لا تتحرك، وأنه يدفع مدفعه بيده اليمنى، فاحتضنته في حب بالغ.

وعدت أنظر غليه، لقد ذهب الكثير من نضرة وجهه، ورأسه بدت صلعاء إلا من شعرات قليلة، لكن لحيته بقيت رمادية توحي بالإصرار العنيد، وفي عينيه حزن لا يريم...

-                 ما هي أخبارك يا منصور؟

-                 انتصرنا...

ضحكت، فلم يعد أحد يجهل هذه الحقيقة، وأدرك هو أن جوابه غير شاف.

-     وحبيبتي الغجرية ماتت، ذبحوها كما تذبح الشاة في وليمة فاخرة، كانوا يتقاسمونها كالوحوش، كانت تصرخ وتدافع، الحيوانات المفترسة تعرف الرحمة، أما هم...

وأكمل وهو يلوح بسبابته:

-     لا... لا... وانتشر خبر فراري من المعتقل، ليتني ما هربت، كان خيرا لي أن أكون أحد الهياكل التي عثروا عليها في مبنى المخابرات المنهار، تسألني لماذا؟ لقد بحثوا عني في كل مكان، ولأنهم فشلوا في العثور علي اختطفوا أسرتي كلها نساء ورجالا وأطفالا.. تسألني الآن مامصيرهم، فأقول بكل أسف.. ذهبوا..

ومعت عيناه:

- ذهبوا إلى من لا يظلم أحدا.

وجفف الدموع وتمتم:

-                 أتعتقد أني أسعد من هؤلاء الذين ذهبوا؟

أمسكت بيده وقلت:

-                 هيا بنا، فغن نجمة الليل كانت تريد أن تراك..

نظر إلي، كأنه يتذكر قصة قديمة عفا عليها النسيان:

-                 نجمة الليل؟

-                 نعم.. زوجتي.

-                 زوجتك؟...مستحيل... أنت تعرف..

ضحكت في ثقة وقلت:

-                 لقد اشتركت معي في عدة عمليات فدائية رائعة..

وكان يجلس إلى جوارنا صحفي جريح عاد لتوه وقال:

-                 أأنت مصطفى مراد حضرت؟

-                 نعم.

وضحك الصحفي في سعادة وقال:

-                 هنا منشور في أورومجي وفي آلتاي وكاشغر وقومول بخصوصكما..

-                 ماذا تعني؟

-     مبلغ من الذهب لمن يقبض عليك أو على نجمة الليل سواء أكنتما أحياء أو أمواتا، إذا هو أنت؟ إن قصتك مادة صحفية رائعة.

ونظرت إلى كتفي، وأشرت إلى الصحفي الذي هتف مقهقها:

-                 نجمة الشرف الأولى.

-                 نعم يا صديقي من عثمان باتور.

-                 وحكم الحكم من الحاكم الصيني.. ما أعجب الدنيا؟

كان القمر يرسل أشعته الوانية، وإلى جواري منصور درغا.

غمغم منصور:

-     مات أمير قومول، وأظنهم قتلوه، وتبدد الأمراء أو تحولوا إلى نماذج للشقاء والتعاسة، وانفرط نساؤهم في كل الأنحاء، الدنيا تموج وتفور بأحداث لا نهاية لها، لكأنما كتب علينا أن نقضي العمر محاربين..

-                 ليس هناك أشرف من الجهاد في سبيل الله، يا منصور..

-     أعرف، لكني أحيانا أفيق إلى نفسي، واتذكر الأيام الجميلة والطفولة البريئة، والأهل والغدير، لماذا ذهب كل هذا؟ هل لا بد أن يشقى الإنسان حتى يبلغ ينابيع السعادة؟ وأين هي السعادة يا مصطفى؟ ها نحن ننتصر، لكن الأمر لكثرة الانتصارات والهزائم أصبح أمرا هينا، أحيانا ينتابني هذا الشعور... اعذرني... فقد فجعت في الإنسان كإنسان، لماذا تموت زوجتي؟ ولماذا يموت العجوز أبي؟ وتراق دماء أمي وإخوتي وعشيرتي؟ قيل لي إنهم كانوا يتمتمون ببضع آيات من القرآن، وكان أبي يعلو صوته بآية الكرسي، كان الجلادون يضحكون.. لماذا يضحكون؟ مصطفى.. أريد أن ألتقي بنجمة الليل، أريد أن أسألها كيف عاشت مع هؤلاء الوحوش؟ كيف آكلتهم وشاربتهم؟ أكانوا بشرا؟

أدركت أن منصور متألم لما أصابه وأصاب أهله، وأن نوبات الحزن التي تحل به من وقت لآخر تثير ثائرته، وتكاد تذهب بعقله.

فربت على كتفه في مودة وهمست:

-                 أتؤمن بالله؟

-                 نعم.

-                 انهمرت دموعه، ثم أخذ يغمغم:

-                 (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)  (البقرة:156)

ليالى تركستان (11)

ليالى تركستان (11)

 
 

أحسست بقدر غير قليل من الراحة وأنا أقطع مغاور الجبال، وعلى القمم يقترب الإنسان من السماء، وتصفو الآفاق، وتزيد برودة الجو، أشعر أن صدري تتفتح شعبه اكثر وأكثر، أشعر بأني طائر تنقصه الأجنحة، ونجمة الليل تمضي إلى جواريأو خلفي على ظهر الجواد، لقد لفحت الشمس وجهها الشاحب فبدا أكثر سمرة واحمرارا، ها هي تعود إلى صورتها الماضية في قصر الأمير، إنها سعيدة مرحة ولكن في شيء من القسوة، أحست في الأيام الأولى ببعض الضيق، لعدم مقدرتها في أخذ حمام ساخن كالنظام التركي، شعرت بغير قليل من الاشمئزاز حينما لم تجد أدوات الزينة إلى جوارها، وربما آلمها ألا تجد الهامات التي كانت تنحني لها صباح مساء من علية القوم، فالناس في الجبال على الفطرة، والنسوة يشاركن الرجال في كل شيء يتعلق بالعمل، كانت البيئة الجديدة التي حولها لا شك جديدة، وبرغم تلك المضايقات التي ذكرتها إلا أنها كانت متحمة للتجربة، ولا تخفى سعاتها، ومن آن لآخر تكرر القصة، كيف قتلته... نظرات الرعب في عينيه، التوسل، الرجاء، والكلمات المستعطفة التي تنسكب من بين شفتيه.

كنت أدرك أنها فخورة أيما فخر بما فعلت، وبعد رحلة شاقة بلغنا جبال آلتاي.

هنا مقر الجنرال عثمان باتور البطل الذي دوخ الأعداء والذي استطاع أن يمسك ببعض الخونة من أبناء البلاد المتشيعين للعدو، وكان عثمان باتور صارم النظرات، طويل الشارب، كث اللحية، كبير الأنف لحد ما، وكان هادئ الحركة، وسيما قليل الكلام، عميق التفكير، إنني أعرفه جيدا، وأعرف الكثيرين من الرجال الذين يناضلون إلى جواره، وكان يلبس الملابس الثقيلة أو السميكة اتقاء للبرد القارس في الجبال، ما أعجب هؤلاء الرجال، كانوا يصمدون لعواصف الطبيعةومكائد الأعداء، ويجابهون الموت والمكاره بشجاعة منقطعة النظير طوال سنوات، وكان شعارهم الذي يهز الجبال "الله أكبر... الله أكبر" وكان بالجبل العديد من مراكز الثوار، فكنت أقضي مع هذا المركز أو ذاك فترة من الوقت، وأحكي لهم تفاصيل المذابح والاضطهاد التي يرتكبها الأعداء في حق المواطنين، وأشترك في بعض الهجمات أو العمليات الخاطفة، وكان هدفي في النهاية أن أكون قريبا من عثمان باتور، حيث مجموعتي الأصلية التي أنتمي إليها، وأعمل معها، وسألتقي هناك مع مصطفى درغا...

وأخيرا نفق منا الجواد، ولجأنا إلى قرية صغيرة في الجبال يسكنها بعض المزارعين والرعاة، كان الجو قد بدأ يميل إلى الدفء قليلا، وبقينا في هذه القرية بضع ليال...

قالت نجمة الليل:

-                 إلى متى المسير؟

-                 لعائدين.

-                 هذا مرهق.

-                 تلك هي الحرب.

-                 لا أعني ذلك.

-                 ماذا تريدين.

-                 آن أن نتزوج، إنك دائما لا تغتنم الفرص، أتذكر آخر لقاء لنا في قصر الأمير، ليتك فعلت....

أمسكت بيدها في حنان فأخذت يدي ولصقتها بخدها، وبقينا هكذا وقتا طويلا، ونظرت بعينين تفيضان رقة وحنانا.

-                 إلى متى نبقى هكذا؟

-                 لا شك أن بالقرية أحد العلماء.

-                 سأجري أبحث عنه.

-                 دعي هذا الأمر لي.

-                 إنني في قمة السعادة.

-                 نحن نغامر.

-                 ولم يا مصطفى؟

-                 أترى سنعيش حنى ننجب أولادا ويكبرون ونسعدهم؟

-                 دع الأمر لله.

كان زواجنا مختصرا جميلا، شاركنا فيه أهل القرية، فرقصت الفتيات، وغنى لنا الرعاة أغانيهم الجميلة، ودقت طبولهم الحلوة التي تهز القلوب، وأكلنا وشربنا، وقضينا عشرة أيام ممتعة كأنما اختلسناها من الزمن، وباعت نجمة الليل ما تمتلك من مجوهرات، واشترينا جوادين، واستأنفنا المسير.

-     هناك يا حبيبتي. الرجال الشجعان، سنعيش، إنهم مجتمع كامل بنسائه ورجاله وأطفاله، الكل لا يعرف شيئا سوى الحرب.

-     الحرب هنا معناها الحياة والحرية، الحرب فريضة في سبيل الله، وعندما ننتصر ونصبح سادة في بلادنا سنبأ حياة أجمل وأروع...

ابتسمت ونظرت إلى الآفاق التي توشحها الغيوم وقالت:

-                 أهناك أجمل وأروع من هذه الحياة التي نحياها الآن؟

-     نعم يا حبيبتي ... عندما يحل السلام، وترجع بلاد الإسلام للإسلام، ويفر الأعداء، عندذئ نستطيع أن ننعم بالحياة، ونكون سعداء حقا، إننا يجب أن نعيش لمعنى كبير، أكبر من الحب الذي بيني وبينك، ستكون تركستان كلها أغنية حب خالدة، وسنكون أنا وأنت وأمثالنا سر روعة الأغنية المقدسة، وسر خلودها، تلك هي الجنة على الأرض.

ليالى تركستان (10)

ليالى تركستان (10)

 
 

إني أعيش في بيت أحد أعدائي، إنه ليس مجرد عدو، غريم استولى على من كنت أحب، يخيل إلي لو مضى علي في هذا المكان عام لتحولت إلى آلة، إلى إنسان شبيه بنجمة الليل، فالحياة الهادئة وتوافر الطعام والملبس والهدوء والركون إلى عيش جميل كهذا يقتل في الإنسان روح الثورية والجهاد، مشكلة أخرى أنني أرى في عيني نجمة الليل أشواقا غريبة حادة، أصبحت أخجل من نظراتها، وفي أغلب الأحيان أهرب منها، وأجد نفسي في كثير من الليالي أفكر فيها، وأغار عليها، هذا البيت تسكنه شياطين من نزوات وخطايا، بالأمس أقيمت في البيت حفلة راقصة، اختلط الحابل بالنابل، كانت نجمة الليل لا شك هي نجمة الحفل، العيون تلاحقها، كل الضباط يريدون مراقصتها، وشرب زوجها حتى ثمل، لكنهم في الفجر استدعوه لمهمة عاجلة فخرج يترنح بعد أن ارتدى معطفا سميكا، الأمر يبدو عاديا، لكني وجدتها تأتي إلى غرفتي، ازداد وجهها شحوبا من كثرة السهر، أحاطتني بذراعيها ووجدت شفتيها تقتربان..

-                 سيدتي.. يجب أن أعد طعام الإفطار.

-                 لست أشتهي شيئا، وأنا لست سيدتك.

-                 القصر كله عيون.

-                 لا أستطيع الصبر.

-                 ما معنى ذلك؟

-                 ألا تفهم؟

-                 وأنا أكره الخيانة.

-                 خيانة الخائن ليست خطيئة.

-                 وأنا رجل مسلم أعرف الله.

هل كانت تريد الانتقام من زوجها، أم تريد أن تقدم نوعا من العطف أوالشفقة، أهو الحب القديم ثار وتمرد؟ وأمسكت بيدي في توسل، وأنا أهرب من نظراتها ولمساتها مخافة ان تضعف مقامتي، وهمست في انفعال:

-                 على سفوح الجبال رجال يتضورون عذابا وجوعا.

-                 هم رجال حقا، لكنهم يعيشون حياتهم.

-                 في الحدود التي أباحها الله.

نظرت كذئب جائع مفترس وقالت مهددة:

-                 أنت تعرف أنني أستطيع عقوبتك.

-                 أهذا هو الحب؟

-                 نعم.

-     عندما يضمك سجن من سجونهم الرهيبة، ويلفك الصمت والظلام، وتهوي السياط على جسدك، عندها سوف تحلم بدقائق تقضيها إلى جواري.

قلت لها في ثقة:

-                 لقد نذرت نفسي للموت.

-                 أنت تلعب بالنار، أنت زوجي الحقيقي.

-                 لكنك في عصمة رجل أسلم، وإن كان إسلامه أمرا ظاهريا.

-                 إذن لماذا أتيت إلى هنا؟

باغتني السؤال، صحيح، لماذا أتيت؟ لقد كنت أفكر في الانتقام طوال حياتيمن هؤلاء المعتدين، لكن أين الانتقام؟ ودق قلبي، هناك حقيقة أحاول إخفاءها، لقد كنت أحب نجمة الليل، إن قبولي المجيء إلى هذا القصر يمت إليها هي الخرى بصلة،وتركتني وانصرفت، لم أرها طوال اليوم، وبقيت أفكر لماذا ساءت الحال؟ وتحكم في أرضنا الغريب، قال لي في الزمن الغابر أحد خطباء مسجد "كاشغر":

-     يا بني إن الإسلام هو العزة، فمن تمسك به عز، ومن تركه ذل، وبلادنا استسلمت في نوم عميق، وغلبت عليها الدعة والاسترخاء والعبث، وأخذ الناس ينسلون عن الدين عروة عروة... يا بني لقد طغى الغنى وضاعت الحكمة ورضخ العلماء للأمراء وعم الفساد والفقر والجهل، وانتشرت المعاصي، يا بني هذا هو بداية الانهيار. وقال أيضا:

-     إن في الشرق اعداء وفي الغرب أعداء، وهم يعتصمون ابلقوة والكثرة، ونحن نعتصم بأمجاد قديمة، والأمجاد القديمة لا تصمد وحدها.

وقال لي:

-     يا بني، المسلمون ممزقون، تركيا تنهكها الحروب والمظالم، والعرب تحت سنابك خيل العدو صامتون، والكفر ملة واحدة، والمسلمون ملل عدة، وبذلك تستطيع أن تفسر لماذا يكون النصر، ولماذا يكون الهزيمة.

إني أتذكر هذه الكلمات جيدا، وكلمات أخرى كثيرة كان يرددها خوجة نياز والجنرال شريف خات وغيرهما، كانوا مؤمنين شجعانا، وفي ساحة الموت لقوا الله دون خوف، لا شك أن مجيئي لها القصركان نزوة من نزوات الشيطان، ويجب أن أرحل، يجب أن أرحل على الفور، لكن بعد أن أفعل شيئا، مقابل الوقت الذي أضعته هنا، وبعدها أسرع بالذهاب إلى الرجال بالجبال.

يقال إن البطل العظيم عثمان باتور أحد رجالنا الشجعان يجمع الرجال ويستعد لثورة جديدة، فلماذا أبقى هنا؟

وحاولت نجمة الليل أثناء غياب زوجها أن تطمس المعاني التي تختمر في قلبي ورأسي لكني كنت أقاوم، كان من الصعب أن أقاوم، فلنجمة الليل إغراء من وع قاتل، إن سيطرتها على الضابط هذه السيطرة العجيبة لا تعني سوى أنها امراة في غاية القوة.

وعاد الضابط بعد يومين، كان مرهقا منزعجا، سمعته يقول لها:

-                 إننا على أبواب متاعب جمة.

-                 لماذا؟

-                 عثمان باتور والثوار بدأوا حرب العصابات.

-                 وماذا يضيرك، هل تظن أنهم قادرون على هزيمتكم؟

-     إنهم يداهمون المراكز الصناعية، ويخطفون الضباط، ويقتلون الكثيرين، لو كانوا في معركة مكشوفة لأمكن القضاء عليهم.

وبدا في عينيها بريق الفرح لكنها اخفته، كان منهمكا في الطعام والشراب غارقا في التفكير، وفي المساء علمت أنها خرجت معه وحدهما للتنزه في إحدى الحدائق الخاصة، وطال بقاؤهما في الخارج، لكن عند منتصف الليل عادت تصحبها ضجة كبرى، وامتلأ القصر بالضباط ورئيس الاستخبارات، ماذا جرى؟ لقد أصيب زوجها برصاصة قاتلة.. فحملوه إلى القصر، وهي تبكي وتصرخ وتشد شعرها، وتقول:

-     لقد رأيت القاتل ... لقد أطلق الرصاص وركب جواده وهرول صوب النهر.. أستطيع أن أميزه من بين عشرة آلاف...

وكانت تصيح وتولول، وبان الغضب والضيق في أعين الحضور، وأخذوا يستجوبون الأرملة الحزينة وهي غارقة في دموعها، كانوا يحاولون تهدئتها، لكنها كانت تحرضهم على الثأر والانتقام، واعتقال كل المشتبه فيهم في أورومجي.

وقال رجل الاستخبارات:

-     هذا هو الحادث الثالث اليوم في أورومجي، إن رجال عثمان باتور يثيرون الاضطرابات، لا حل سوى العنف، والمزيد من العنف، لقد قلت يجب أن نقتل كل تركستاني يشتبه في أمره، لكنهم يرفضون وجهة نظري أن جميع التركستانيين مشتبه في أمرهم، أنا أعرف كيف ألتقط الخونة، لن أترك هذه الأحداث تمر ون عقاب، وقد أعلنا حالة الطوارئ في أورومجي.

 وكانت نجمة الليل في حالة من الحزن والألم والتعب يرثى لها، لكن الغريب أن الكثيرين من رفاق القتيل كانوا يروحون ويجيئون ويقدمون التعازي لنجمة الليل، وكنت أرى في عيونهم الفرح والأمل، الكثيرون كانوا يطمعون فيها بالرغم من أن دماء القتيل لم تجف بعد، وقررت نجمة الليل في النهاية أن تعتكف في بيتها أسبوعا لا تقابل فيه أحدا، وكثرت الإشاعات في المدينة، وسادها جو من الخوف، وكان الضباط الأجانب يعانون من ضيق شديد، وبدا الأسود والنمور كالأرانب، لقد كنت على وشك الرحيل من ذلك القصر، لكن هذا الحادث أخر رحيلي، حسنا يجب أن أنتظر، وذات مساء وجدتها تدخل غرفتي، انتفضت واقفا وأنا أهمهم:

-                 سيدتي.

نظرت إلي بعينين ثابتتين لا تطرفان:

-                 ألا تعرف القاتل؟

-                 من؟

-                 حسنا، أنا الذي قتلته.

-                 أنت يا نجمة؟

ضحكت في شماتة وقالت:

-                 نعم، أتدري لماذا؟

كانت تتحدث في توتر، وكنت مذهولا لحديثها، فلم أنطق بكلمة واستطردت وهي تقول:

-     لقد قاد كمينا أوقع بعشرة من الثوار، كانت عملية رهيبة، لقد اعترف لي بنفسه، وبرر ذلك بأنه لا يستطيع مخالفة الأوامر، لقد وعدني قبل ذلك أن يتفرغ للإمدادات التموينية، وليلتها لم أنم، حاول مضاجعتي، لم يبد عليه أدنى تأثر أو انفعال، كان يمرح ويحك وكأنه لم يفعل شيئا، وتصورت.. ماذا لو كنت أنت يا مصطفى مراد حضرت أحد هؤلاء الثوار العشرة، أخذته، قلت لنحتفل بانتصارك ونشرب النخب، كان سعيدا، وروى الكثير من العمليات الناجحة، وعما أعدوه للثوار، إن عثمان باتور يسبب لهم إزعاجا كبيرا..

آه ، ونزلنا إلى الحديقة، ومررنا بجوار السور من الداخل، تناولت مسدسا، واجهته، لم أهاجمه من الخلف، قلت إنني أحاكمك، أنت خائن، والقتل جزاء الخيانة والغدر، أخذ يقهقه، كان يظن أنني أمزح، صرخت فيه كمجنونة، اثبت مكانك، الجريمة الكبرى هي الكذب، كذبت حينما زعمت أنك مسلم، فلم تصل ركعة واحدة، وكذبت حين قلت إنك تكره الحرب، أنت لم تكن سوى حيوان، وأنا بالنسبة لك كالكأس التي أدمنتها ولا يمكنك الاستغناء عنها، ..قف.. لا تتحرك، لقد شحب وجهه، ركع على ركبتيه، رأيت في عينيه الموع، تصور أنه كان يبكي، لشد ما تلذذت ببكائه، ما الذي أتى بك في بلادنا؟ أغمض عينيه وقال متوسلا:

-     أنا أحبك يا نجمة، لم أحب أحدا مثلما أحببتك، أعدك بشرفي ألا أعود لمثلها لوو طردوني من الجيش، أنت كل شيء في حياتي.

ضحكت وضغطت على الزناد وأنا أقول:

-     وأنا أحبك، وقتلي لك يطهرك من قاذورات وخطايا كثيرة. خذ..خذ...خذ..خمس طلقات بعدد التعساء الذين راحوا ضحيتك.

وانهمرت دموعها:

-                 ماذا يقول أهل قومول عني لو عرفوا ما حدث؟

ثم جرت إلى الخارج، وعادت وفي يدها كأس:

-                 معذرة، الملعون عودني على شرب الخمر، ولسوف نتزوج يا حبيبي، ولكن كيف؟

ورمت الكأس، ثم أخذت تقول وهي تقهقه في عصبية:

-                 أحد أصدقائه ألمح لي بالزواج، أحد أصدقائه المخلصين، تصور الضباط هنا قلوبهم من أحجار.

وقضينا أيما تعسة، كان رئيس الاستخبارات في أورومجي يسوق الأبرياء المشبوهين إلى المعتقل، وكل يوم كان يعدم واحدا أو اثنين بحثا عن القاتل، ومن آن لآخر كانوا يأتون إلى نجمة الليل ويعرضون عليها بعض الثوار أو المشتبه فيهم فتنكر أن أحدهم هو القاتل، وزادت عمليات القمع والسجن واشتدت حالة الطوارئ وحدها بل في كافة المدن الكبرى، كما ازداد نشاط الثوار.

وذهبت إلى نجمة الليل ذات مساء وقلت لها:

- ها قد انتهت فترة الحداد، وأرى أن تقيمي حفلا راقصا كبيرا وتدعين فيه نخبة من الكبار، بهذه الطريقة نلقي ستارا على الحادث القديم وينتهي هو وقصته، ورأيي على أن تحرصي على أن تعلني خطبتك على ذلك الصيني الذي يريدك.

قالت في غيظ:

-                 لقد قتلته لأني أريدك.

-                 وأنا أريد هذا الحفل إن كنت تحبينني حقيقة..

-                 لماذا؟

أمسكت بذراعيها البضة وجذبتها نحوي بشدة ثم ضممتها إلى صدري قائلا:

-                 حبيبتي، يجب أن ننتقم للأبرياء.

-                 كيف؟

-                 لدي شحنة ضخمة من المتفجرات أرسلها الثوار.. وعندما يكتمل الحفل سنحيل القصر إلى جحيم.

هزت رأسها:

-                 ونحن؟

-                 سنتركهم غارقين في الخمر والرقص والغناء، فإذا ما ابتعدنا عن القصر وى الانفجار.

-                 وإلى أين نذهب:

-                 إلى الجبال، هناك عثمان باتور والرجال الشجعان.

أشرق وجهها بالفرح، وأخذت تقبلني من كل مكان وأخذت أغمغم:

-     الطباخة العجوز يجب ان نبعث بها بعيدا قبل الحادث، وسائق العربة ذلك المنغولي التعس يجب أن نجد له مخرجا ، والصبيان الذان يخدمان سنبعث بهما إلى الحديقة ليعدا غرفة خاصة طالما لهوت بها أنت وهو..

وفي الليلة الموعودة، كان الليل دامسا، وركبنا جوادا قويا، وانطلقنا في عتمة الليل القارس، ونظرنا خلفنا فإذا القصر كتلة من النيران المشتعلة، وإذا المكان من حوله يضئ وإذا الصراخ وصفارات الإنذار تتوالى، وبعد ساعة كنا على مشارف الجبل.

قلت وأنا أنزلها من فوق الجواد:

-                 الجبل يا نجمة الليل سيظل مملكة الأحرار، المناضلين.

قالت وهي ترتجف من البرد:

-                 لشد ما أنا سعيدة.

ضحكت قائلا:

-                 يجب أن تبحثي لنفسك عن ثياب خشنة.

وسألتني نجمة الليل فجأة:

-                 لكن لماذا فكرت في هذه العملية الجريئة في هذا الوقت بالذات؟

قلت وأنا أسحب الجواد إلى منعطف ضيق آمن:

-     ليست هذه هي المرة الأولى، طوال إقامتي في أورومجي كنت أقوم بعمليات مشابهة، كنت أتحرك بأوامر عثمان باتور.

نظرت إلي ساهمة وعيناها محملقتان..

-     ولو لم تفعلي ما فعلت في زوجك وفي حادث الليلة لكان مصيرك كمصير هؤلاء الذين يحترقون بنيران غدرهم وظلمهم.

صرخت قائلة:

-                 ماذا؟ أكنت تقتلني؟

تذكرت قصة الضابط وخاتون، وهتفت:

-                 أنا أبوها.

لم تفهم نجمة الليل شيئا، وانصرفنا إلى أحاديث أخرى، عن السفر الطويل ولقاء عثمان باتور قائد الثورة في الجبال...