ليالى تركستان (18)

ليالى تركستان (18)

 
 

 كل شيء من حولنا يتبدل ويتغير بسرعة، الناس والأشياء والأسلحة والمواقف وخريطة العالم، كثير من أولادنا ذابوا في خضم الهزيمة، أخذوا يلوون ألسنتهم بكلمات جديدة، وشعارات رنانة، والبنات- يا إلهي!- خرجن إلى الشوارع سافرات... تيار كاسح من المغالطات والفضائح والانحرافات يجرف كل شيء أمامه باسم التقدم، ألا يمكن أن يتقدم الناس ويتحضروا ون أن تتحيفهم المظالم، أو تسحق حرياتهم أو يساقوا سوقا كما تساق العبيد؟ ألكي يتعلموا لا بد أن يكفروا؟ لماذا لا يمشي التقدم معانقا العدالة والحرية، ولماذا لا يسير العالم يدا في يد ع الإيمان بخالق الكائنات، ولماذا لا تحدث نهضة دون أن تعري النساء أجساهن ودون أن يكثر البغايا والعابثات؟ لماذا لا تتصادق الشعوب دون أن يحاول شعب إفناء شعب آخر أو تبديده واكتساحه بالهجرة من ألوان وأجناس اخرى؟ إن ما أراه في تلك الأيام يبدو لي وكأنه من صنع الشياطين، وكنت أردد من آن لآخر لأصدقائي المحاربين أن الطهر والنقاء الثوري كل هذا يتعلق على سفوح الجبال، وكنت أنظر غلى عثمان باتور الجنرال المؤمن فيخيل إلي أنه بقية السلف الصالح.

إن هذا الرجل تتجمع فيه المعاني العريقة لجيل ينقرض، لحضارة طويلة فاضت بالخير والنبل والصفاء، وأنا وراء هذا الرجل حتى الموت، ودارت المعارك حامية الوطيس بين رجالنا والقوات الصينية المسلحة بأحدث الأسلحة، وانتصرنا في سلسلة من المعارك، ولكن هل كان انتصارنا سهلا؟... لا.. فإن مدد العدو لا ينفد وكان رجالنا دائما يتناقصون، كنا ننتصر بالتضحية التي لا مثيل لها، ويغمغم الجنرال عثمان باتور:

-                 رجالنا يتقمون ويندفعون إلى الموت.

-                 رجالنا يتقمون ويندفعون إلى الموت.

-                 سيدي الجنرال.. إنهم يعرفون ما يجب عمله..

-     الملحة التي يسطرونها يا مصطفى حضرت بمائهم ملحمة خالدة، لكني علمت اليوم من طلائعنا المتقمة أن العدو يجهز ليوم رهيب، ولم تمر إلا أيام قليلة، وفؤجئنا بالحشد الصيني الذي توقعه عثمان باتور، وظلت المعركة محتدمة الأوار ثلاثة أشهر كاملة، وقررنا الانسحاب نحو ولاية شينهاي الصينية لجمع الشمل وجعلها مركزا للهجوم على القوات المعادية، لكن الطريق إلى شينهاي لم يكن معبدا سهلا، فقد كان الموت يترصدنا في كل جانب، وتزعف علينا أكثر من عشرة آلاف جندي صيني من مدينة "آن سي شا" الصينية إحدى مدن "قانصو" وقد سيطر علينا شعور بالتفاني، وكأننا باندفاعنا الدامي مع العدو نريد الموت، أو نهرب إليه من المصير المحتوم، وتمكنا أخيرا من الوصول إلى مدينة ماخاي التابعة لولاية شينهاي.. كنا نريد أن نستريح بعض الوقت ونلتقط أنفاسنا.. وكنت أنا شخصيا أحاول البحث عن نجمة الليل وولدي...وكانت أمنيتي أن أراها قبل أن أموت، قد يرى البعض أنها أمنية تافهة في مثل هذه الأوقات العصيبة، وقد يرميني البعض بالأنانية لأنني أفكر في زوجتي وولدي على هذه الصورة والوطن برمته متعرض للضياع والفناء... أنا لا أكترث لما يقوله البعض، فقد تعلمت الصدق مع نفسي... وأنا بشر تعرف الدموع طريقها إلى عينيه، ويعرف الخفقان سبيله إلى قلبي..

-     المطاردة لم تخفت حدتها، هناك الآلاف يزحفون نحونا من مدينة "دون خان" إحدى مدن ولاية "قانصو"، وهناك آلاف آخرون يزحفون صوبنا من مدينة "شر خلق" المتاخمة لحود الصين..

وقال الجنرال عثمان باتور:

-     "الليل يزحف على "ماخاي" أيها الأصدقاء.. يا من فضلتم الموت على الحياة، الذئاب تسد مسالك الطريق يا شهداء العدوان، وأرى الرايات قد لونت الأفق، في كل يوم يسوق الجزارون خرافا للذبح، هم لا يفرقون بين الخراف والبشر، والطريق الذي قطعناه أيها الرفاق من "باريكول" أو من الجبل إلى هنا، ترصفه عظام الأحرار، وترويه ماؤهم الزكية، يا طول الرحلة المرهقة!! وكثير من النساء والأطفال يفرون في كل اتجاه يبحثون عنا.. عن ذويهم.. وإذاعة أورومجي أيها الأصدقاء تردد الأناشيد الحماسية للأعداء وتسمم الأفكار، وأبناء شعبي المسجونون في الشوارع والبيوت ومصانع السخرة والمساقون إلى الحدود والمنفى وساحات الإعدام يتمتمون بأصوات خافتة، يجأرون إلى الله، ويردون ترانيم الموت، هؤلاء الشهداء الأحياء أتعس مصيرا من الذين يموتون في المعركة، أيها الأصدقاء سندخل المعركة، ومن يبقى منكم حيا فليحمل قصة جهادنا وعذابنا الطويل للأمم المسلمة النائمة في الجنوب وفي الشرق والمغرب العربي.. وفي إندونيسيا والهند وباكستان،.. وقولوا لهم إن الأندلس الثانية قد سقطت في قبضة عدو الله والإنسان.. ومن يدري لعل المسلمين يتيقظون في يوم من الأيام ويجمعون شتاتهم، وتكون لهم معركة كبرى ينتصرون فيها لله... قولوا للمسلمين في أطراف الأرض لا تصدقوا صحف العدو، ولا تثقوا في تاريخه وفلسفته ودعوته".

وتطلع عثمان باتور إلى السماء، واتجه صوب القبلة ودعانا للصلاة..

وفي اليوم التالي اندفعت جموع الأعداء صوبنا من كل حدب..

واحتدمت المعركة... واندمجنا في المعركة الأخيرة بكل ما ملك من إحساس وقوة وإيمان وانتهى كل شيء..

سقط الجنرال عثمان باتور في يد الأعداء... وشهته من فوق شرف عال يسير مرفوع الرأس، كان الأعداء يجبون أكمامه، وغطاء رأسه ومعطفه، ويداعبونه مداعبات الموت، لكنه كان صامدا يتطلع إليهم في أنفة، أو يركلهم في ازدراء..

تفرق المحاربون –أو البقية الباقية منهم- في كل اتجاه.. ثم كانت وجهة كل واحد منهم صوب الحدود أملا في الوصول إلى كشمير، وسيق الجنرال عثمان باتور إلى ساحة الإعدام.. كما سيق تسعون ألفا من التركستانيين والصينيين تحت تهديد السلاح ليشهدوا نهاية البطل.. ومات البطل عثمان باتور..

كنت مندسا بين الصفوف لا يعرفني أحد، فقد ارتديت ملابس محاربي مدينة "دون خان" إمعانا في التخفي، كنت أنظر إلى البطل الشهيد وأنا أضحك في هيستريا، وعيناي مبللتان بالدموع، وأصرخ كالمجنون: يحيا العدل!

وفي الليل الأسود القاسي القلب توجهت إلى إلى الطريق.. طريق الهاربين من الجحيم، وبعد ليال قاسية مضنية بلغت حدود كشمير.. ووجدت بقية الباقية هناك.. لم يبق من العشرين ألفا سوى ثلاثمائة... لأن العدو طوال الطريق كان يناوش الفارين وينقض عليهم، ويطاردهم بنيرانه في معارك سنكرس وكتساو وغيرهما من مدن التيبت، وخسر العدو خسائر فادحة، وأخيرا تبقى منا عند الحدود حوالي الثلاثمائة.. وخلوا كشمير.. وتوافد علينا خلق كثير من المهاجرين التركستانيين، واختلط الجميع.. كنت في أمس الحاجة إلى النوم، لم أستطع المقاومة .. وأغفيت.. ولا أدري هل طال الوقت أم قصر.. لكني تيقظت قبيل المغرب على يد حانية تهزني برفق، وفتحت عيني...

هل أنا في حلم أم يقظة.. يا إلهي! ها هي نجمة الليل ترتدي زيا مشابها لزي نساء كشمير.. وطفلي الكبير إلى جوارها ، إنني أعرفه جيدا .. هذا الفتى الجميل الذي أظهرت الشمس بشرته الشقراء..وأخذت أتحسس رأس الطفل، وأربت على وجه نمة الليل، والدموع تملأ عيني، لم أستطع الكلام فقد خنقتني الدموع، وزوجتي هي الأخرى كانت تنتفض من الانفعال، وتضمني إلى صدرها، وولدي يطوقني بكلتا يديه...

-     لم أكن أتصور أن تنجو من الموت يا مصطفى.. إن الشيب قد صبغ شعرك والتجاعيد ملأت وجهك.. لكأنما مر على فراقنا مائة عام..

قبلت الطفل في حنان، وهمست بنرات راعشة:

-                 لكم يحزنني أن أترك شعبي المسلم السجين خلف الحدود يقتسمه الأعداء..

وهمست نجمة الليل وقد ازداد وجهها شحوبا، واكتسى بحزن وقور:

-                 إن أمنيتي أن نرحل إلى بيت الله الحرام.. ولنعش في مكة أو المدينة..

وتطلعت عبر الآفاق المعتمة ورائي، وتذكرت منصور درغا الذي مات على باب المسجد، وتذكرت الرفاق المؤمنين الذين قضوا حياتهم وراء القضبان، ثم الشهداء الذين سقطوا حول الجنرال عثمان باتور، ويوم المشهد العظيم حينما ساقوا الجنرال إلى ساة الموت..

وغمغمت:

-     سوف نسير إلى بيت الله الحرام.. إن قطرات من ماء زمزم قد ترد روح الضائعين والمتعبين.. إني أتخيل وأنا أصرخ في جموع الحجيج مبشرا بيوم الخلاص.. وكأني بملايين المسلمين يشقون الأكفان، وينطلقون تحت راية التوحيد ليحرروا من جديد ملايين العبيد..

تلك هي قصتي...

 
 

انتهى

ليالى تركستان (16)

ليالى تركستان (16)

 
 

تمتم منصور درغا قائلا في حزن:

-     نحن كالغريق، يظل يقاوم بذراعيه قوى الموت، ويضرب ويضعف ويدفع الأمواج في وهن، ثم يغوص، وهناك في المجاهل المظلمة في أعماق البحر يودع الحياة في صمت وحزن، آه..يا مصطفى حضرت، نحن هكذا.. أترى سيذكرنا أحد بعد الموت؟

كان منصور درغا يتكلم، ويحاول أن يمثل دور الغريق وهو جالس إلى جواري، ويسبح متوهما بحماس بالغ، ثم ألقى سؤاله الأخير وهو يلهث وكأنه يقاوم الأمواج حقيقة..

ووجدتني أجيبه قائلا:

-                 ما قيمة أن يكرنا أحد؟

قال والجد يرتسم على وجهه:

-                 لذلك قيمة كبرى.

-                 ما هي؟

-                 إذا نسينا الناس فمعنى ذلك أن القضية الشريفة التي نناضل من أجلها قد ماتت..

وأخذت أهز كتفي وأقول:

-                 القضايا لا تموت بموت الرجال.

ضحك منصور في سخرية وقال:

-     لا قضايا بدون رجال، مات خوجة نياز، ومات الجنرال شريف خان ومات أمير قومول... نحن لسنا أمراء ولا جنرالات، لكن القضية حية، انتظر لا تقاطعني، وماتت زوجتي الأولى، وتزوجت أرملة غيرها، القضية لم تزل حية، لكن وا أسفاه! ما زلنا نقاوم الأمواج، أترى سنبلغ شاطئ الأمان أو ستأتي سفينة النجاة.. أم نلاقي الموت في الأعماق السواد الصامتة؟

ومانت آلتاي في أيدينا وعثمان باتور يعد العدة، ويجند الجنود، والثوار يهرولون إلينا من كل مكان يحتله العدو أو يسيطر عليه الخونة، وأخذ ينضم إلينا التجار الذين أفلسوا والأغنياء الذين سلبهم الفقراء أموالهم، والفقراء الذين يسخرون لشق الطرق أو بناء السكك الحديدية دون أجر سوى أن يأخذوا وجبة طعام، والعلماء الذين أذيقوا العذاب والسخرية ألوانا.

وذات يوم جاؤوا بجنودهم.

هذا ما كان يتوقعه عثمان باتور، جاؤوا هذه المرة بأعداد كبيرة، زحفزا على آلتاي كالسيل الجارف، ومعهم عدد وآلات، وكانت المعركة عنيفة دامية، خسروا كثيرا وخسرنا كثيرا، لكنهم استولوا ثانية على آلتاي، وعدنا مرة ثانية إلى الجبال وشعابها، واتخذنا باريكول قاعدة لانسحابنا، وكان عثمان باتور يقول:

-                 النضال حتى الموت.

ابتسم منصور درغا، وكانت الدماء ينزف من رأسي، أخذ يضمد لي جراحي ويقول:

-                 لكأنما نموت موتا بطيئا.

-                 ألا تؤمن بالبعث؟

طاف منصور بنظراته الساهمة عبر الآفاق البعيدة التي يوشحها السكون البارد، وقال:

-     إنني أؤمن بالبعث، لكننا نبعث في الآخرة يا صديقي، وقلوبنا صافية كالنبق الرقراق، لن يبعث معنا حقدنا، إنني أحقد على الأعداء أشد الحقد، عندما يتوارى هذا الحقد، فلسوف أفقد لذة كبرى، إنني ادعو الله أن أبعث حاقدا، هؤلاء الشياطين ارتكبوا من الموبقات ما لا يصدق،  آه يا مصطفى.. قد أخذ بعض رجالنا أسرى أثناء إحدى المعارك، أتتذكر؟ ربطوهم في عجلات الدبابات .. أتذكر؟ كانوا يتبارون في تصويب الرصاص إلى آذانهم وعيونهم، أتذكر؟ كانوا يسخرون ويقولون : اشنقوا آخر ثائر بأمعاء آخر جندي، بقد شنقوا بعض العلماء الثوار فعلا بأمعاء أحد جنرالاتنا.. أيمكن أن تسمى هؤلاء بشرا؟

كانت وطأة الهويمة على أنفسنا قاسية، وكان الأصدقاء قد تحالفوا مع الحاكم الصيني الجديد، على استئصال شأفتنا، وأخذنا نتطلع يمنة ويسرة فلا نجد صديقا ولا حليفا، قال عثمان باتور وهو ينظر إلى السماء ويشير بسبابته:

-                 إنه معنا...

وهتف الرجال المرهقون الذين ينزفون ويتألمون : "الله أكبر".

وقال منصور درغا ذات أصيل:

-     سوف نذهب إلى أعماق الجبال، وقد نرجع إلى المدينة أو لا نرجع، ما رأيك في أن نقوم بجولة صغيرة؟ أريد أن أطمئن على زوجتي، وأنت الا تريد أن رؤية ولدك وزوجتك؟

الحقيقة أنني كنت في أشد الشوق إلى رؤية نجمة الليل وطفلي الذي كبر، لكننا مطاردون...ثوار.. وإذا سقطنا في أيدي العدو فمعنى ذلك الموت لا محالة، وهتفت في قلق:

-                 المدينة تبدو لنا وكأنها حقل من حقول الموت.

-     أتخاف الموت يا مصطفى؟ هيا بنا.. سوف نتخفى.. وسنرى الدنيا الجديدة التي شكلها المعتون، في المدينة سنرى الرايات، والشعارات، سنرى المدينة تنشد قصيدة رثاء ووداع، المدن كالبشر يا مصطفى تحزن وتتألم، وتترنم بالشعر، وتلطم خدودها، المدينة كائن حي، كائن بشري... صدقني..

ونخترق الطريق الطويل بلا هويات، أحيانا نلبس زي الرعاة وأحيانا نبدو متسولين نستجدي لقمة العيش، وفي بعض الأوقات نشترك مع عمال الشحن والبناء، أو نشترك في مظاهرة صاخبة تهتف، أو نأخذ دورنا في رجم أحد الثوار الخونة الشرفاء، لكننا لم نكن حريصين أن تسقط أحجارنا عليه، كنا في وسط الضجيج نضرب الأحجار في رؤوس الجنود سواء أكانوا أعداء أو تركستانيين خونة، اختلط الحابل بالنابل وسادت البلاد فوضى من نوع غريب، المصاحف وتفاسير القرآن، وكتب الحديث وخاصة كتاب الإمام البخاري جدنا العظيم وغيرها من كتب الفقه والتوحيد، كثير منه ممزق وملقى في الشوارع، والجنود يشعلون فيه النار ليستدفؤوا من شدة البرد..

وأخيرا وبعد ليال شاقة مضنية وصلنا إلى المنزل الذي تقيم فيه زوجة منصور درغا، كنا قبيل المغرب بقليل، وخل منصور أولا.. ووجدته يضحك بصوت عال كاد يستلقي على قفاه:

-                 تعال وانظر يا مصطفى.. المرأة خلعت برقع الحياء.

-                 وسمعتها تقول بصوت يخالطه البكاء:

-     لعنة الله على الشياطين! لقد مزقوا قناعي في الشارع وفعلوا ذلك مع كل امرأة تسير محجبة، واختطفوا عباءتي، وأشعلوا فيها النار، بل أمسكوا بثوبي وأعملوا فيه المقص حتى يصير قصيرا، وتصير أكمامه أيضا قصيرة، إنهم يريدون لنا التقدم والحضارة.

كان منظر الأرملة في ثوبها القصير الأسود، وأكماما التي تقترب من إبطها، وشعرها المتهدل، يعطي انطباعا في قلبي لا أنساه، إنه مشهد يضحك ويحزن في نفس الوقت...

وأمسك منصور بزوجته وقال:

-                 هذه هي تركستان الجديدة.

كانت المرأة تشعر بالخجل، وتبكي ف حرارة، لكن منصور ضمها إليه في حنان وقال:

-     لا تحزني يا حبيبتي، لن نبقى هنا طويلا، سنذهب إلى حيث تلبس النساء ما تشاء، وفي الجبل يا حبيبتي لا توجد مصاحف ممزقة، ولا يستطيع أحد أن يدوس صحيح البخاري.

وتركت منصور درغا على أمل اللقاء به في الغد، كنت أشعر بشوق جارف نحن نجمة الليل والطفل الحبيب، الذي يستطيع الآن أن يجري ويلعب ويناديني باسمي.. لكم أحب هذا الولد الجميل المرح..

الليل في المدينة يوحي بالخوف والخطر، والتجول ممنوع حتى الفجر، والمدينة امتلأت بوجوه كثيرة لم تكن فيها من قبل نساء ورجالا وأطفالا، صدق ما سمعناه أن الأعداء يقومون بهجرة واسعة إلى تركستان، وفي نفس الوقت يأخذون مئات اللوف من أبناء تركستان الأصليين، ويهبون بهم إلى بعيد، ويستولون على المنشآت والمتاجر والمزارع، ويبنون للمهاجرين الجدد بيوتا ومؤسسات، وأماكن للدعارة أيضا، قوافل الفتيات الصينيات ملأت البلاد باسم الحرية والتحرر، والكتب الصغيرة بمختلف اللغات تملأ المدارس والأندية والشوارع، إنها كتب خصيصا لبلادنا، وهي تتحدث عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتذكر أبطالا لم نسمع بهم قط، وتصور عثمان باتور وخوجة نياز والرئيس علي خان بصورة اللصوص وقطاع الطرق، وتجعل من الحاكم الجديد التتري المهاجر غلى بلادنا الذي أصبح مكان الرئيس علي، والذي يتغنى بمجدهم تجعل منه البطل القومي محرر الشعب، ورفيق التقدم، وأبا الأحرار ... هذه ليست المدينة التي أعرفها، لا الرجال رجالها، ولا الأطفال أطفالها، وهؤلاء النساء العاريات الكاسيات لسن نساءها...

وأخيرا ذهبت إلى الجهة التي كانت تعيش فيه زوجتي... قلبي الحزين يدق فرحا بلقاء الأم والطفل، عندما انظر إلى وجه نجمة الليل أشعر براحة كبرى، وطرقت الباب طرقات خفيفة، وسمعت وقع خطوات ثقيلة، وعندما فتح الباب كدت أصعق...

- من أنت؟

نظر إلي بعينين محتنقتين، ووجه مكتنز شديد الحمرة، وخصلات من شعر رأسه يخالطها قليل من الشيب، وبقايا حساء تبدو قطراتها عالقة بشاربه الكث، وقال:

-                 ألا تعرف من أنا؟ الكل يعرفني، أنا زعيم العمال الذين قبضوا على كبار الثوار.

كان واضحا انه جاهل لا يعرف شيئا من التعليم، وعلى الرغم من أنه يتكلم بلغة البلاد إلا أن وجهه كان غريبا، وسحنته كذلك، وهذه الغلظة التي فيه ، ونظرة الكراهية التي تطل من عينيه..

- يبدو أنك أخطأت الطريق.

قالها ثم صفق الباب.

آه.. والدار لو كلمتنا ذات أخبار.. واضح أنه احتلال من نوع صغير.. ودخلني رعب مبهم، أين ذهبت زوجتي وولدي؟ يجب أن اتصرف بروية وهدوء وإلا قبض علي، وعندما أساق إلى سجن أو معتقل فلن أخرج منه طوال حياتي، وبرغم القلق الذي يسيطر على روحي، والثورة العارمة التي تحرق قلبي إلا أني اعتصمت بالصبر والهدوء، وأخذت أتجول في الحي القديم الي بدا نصفه مهدما، فقراء المنطقة يعرفني بعضهم ويعرفون ولدي وزوجتي، وهناك قريب عجوز كان يعمل خادما في مسجد، والحلاق الذي يقع دكانه على ناصية الشارع أعرفه جيدا، إنه يحلق لولدي شعره الذهبي، ليته محتفظ بخصلة من شعره الحبيب، لكن المسجد مغلق، ولا أكاد أرى أحدا من المعارف، وذهبت إلى الحلاق، كان يحلق لأحد الرجال، نظر إلي من طرفه، والتقت عيناي بعينيه، وهممت أن أحييه تحية الود القديم،لكمه سرعان ما أغمض عينيه، لم يكترث لوجودي، وبدا أنه غير راغب في محادثتي، وفكرت، ماذا أفعل، حسنا، فلأجلس على هذا المقعد الخشبي العتيق، وليكن ما يكون، ولاحظت أن الحلاق يسرع في عمله، وأخيرا تقاضى أجره، وانصرف الزبون، وأشار إلي، فقد جلست مكان الرجل الي انصرف.

-                 ماذا جرى يا عم عبد الخالق؟

-                 قال وهو يزاول عمله في رأسي الكث:

ما الذي أتى بك إلى هنا؟ إن رجال عثمان باتور إذا قبض عليهم يقتلون فورا، كيف دخلت المدينة؟ يجب أن ترحل بأسرع ما يمكن وإلا فقدت حياتك.

وقلت في سخرية:

-                 ماذا يجري؟

-                 لست أدري ولكني حلاق يريد أن يعيش.

-                 أين ذهبت نجمة الليل؟

-                 هربت.

-                 والتفت إليه في دهشة:

-                 أخذت الطفل وتسللت دون أن اعرف عنها شيئا.

دارت الأرض، المقص يصدر أصواتا سريعة تزيد من توتر أعصابي، وأدرك عبد الخالق ما أعانيه من أحزان وحنق أثار جنوني.

-                 تصرف بحكمة يا مصطفى، نحن في زمان تعس لا يعرف الرحمة، ولا يعرف الله.

قلت بصوت كالفحيح:

-                 أين ذهبت زوجتي؟

-                 يرجح أنها اتخذت طريقها غلى قومول.

-                 ولماذا قومول بالذات؟

-     هذا إذا بلغت قومول سالمة، الأسر تناثرت في كل مكان، البلاد امتت إليها أيدي أسطورية ضخمة تلهو بجماهير الناس وتخلطهم وتعتصرهم، وتبعثرهم يمينا وشمالا، لا أدري ماذا أقول، وكيف أعبر، خير لك أن ترحل عن هذه المقاطعة فقد سقطت نهائيا في أيدي العدو.

-                 مستحيل.

ساد وجهه الشحوب وارتبك وقال:

-     لا ترفع صوتك يا مصطفى، نحن شعب صغير يأتيه البلاء من كل مكان، ويحاصره الرعب من جميع الجهات الأربع، قضيت فترة تحت يدي عبدالخالق، وقبل أن أنصرف من دكانه وضع على صدري شارة العدو وهو يقول:

-                 هذه الشارة ستوفر عليك الكثير من المتاعب.

انتزعتها من فوق صدري، ثم قذفتها وسط الشعر المتناثر المقصوص وبصقت عليها وسحقتها بحذائي، وانصرفت، أين أذهب؟ أنا في وطني كالغريب، أرض ليست لي، أصدقاء يهربون، وزوجتي غرقت في خضم الأحداث الكبار، فلأعد إلى منصور درغا لأقضي عنده الليلة.

عندما دخلت إلى بيت منصور، وجدته يجلس في ناحية وزوجته في مقابلته، والطعام لم تلمسه يد..

وهشا لمجيئي المباغت، ونظر إلي منصور في حزن فقلت له:

-                 لم أجد أحدا.

هز رأسه وقال:

-                 لقد رحلت هي وطفلها إذن؟

-                 نعم، ولا يدري أحد إلى أين...

-                 قال منصور وقد اختنق وجهه وارتجف شاربه:

-                 هذا أفضل.

لم أفهم ماذا يعني، لكنه قال والحسرة تتقطع قلبه:

-                 ألا تدري؟ لقد أفلتت زوجتي من الضياع والموت، لكنها دفعت الثمن.

-                 أي ثمن؟

-                 كانت تستضيف الأعداء، هل فهمت؟ لقد حضروا.. رأيتهم يدخلوان البيت سكارى.. هل فهمت؟

-     أنا اختبأت كالفأر المذعور في أحد الأركان حتىلا يقتلني أحدهم، وهي.. هي .. زوجتي أخذت تمازحهم وتقبلهم، . من أجلي.. هكذا قالت.. تكلمي أيتها المومس الفاضلة؟

قالت وهي تتشنج عاليا:

-     أردت أن اموت، لكني جبنت، اغتصبوني عنوة.. لم أكن أعرف لي مكانا آوي إليه، لماذا لا تأخذني إليك يا ربي؟ ارحمني يا منصور، إنهم فعلوا نفس الشيء ببنات العلماء الكبراء وزوجاتهم، إنني لا أتصور أنني أرى الحقيقة، يخيل إلي دائما أني أحلم.

وقال منصور درغا والدموع تبلل أهدابه، ولكنه كان يحاول أن يمزح زاحا مرعبا:

-     حسنا سوف نقضي ليلتنا هنا كضيوف شرفاء، لديك أبتها المومس الفاضلة، غدا نرحل، أنت طالق... وأنت...ماذا أقول؟ على من يقع اللوم؟

وتطلع إلى الأرض والسماء وإلي، ثم أخذ يقهقه كمجنون.

ليالى تركستان (15)

ليالى تركستان (15)

 
 

 
 

ساد لغط كبير في أنحاء البلاد أبان الاستعدادات للاستفتاء الكبير وتقرير المصير، ووجدت خلافات جذرية بين السياسيين والمفكرين، لكن ثقل الحلفاء أعطى التغييرات الداخلية اتجاهات خاصة ومؤتمرات معينة، فقد طفا على السطح أولئك البرجال الذين يمتدحون موقف الحلفاء ومدهم لتركستان الشرقية بالسلاح، كانت وحدة النضال تجميع قلوب الرجال على معنى واحد هو التحرير وعودة البلاد إلى حظيرة الإسلام والحرية، ونتيجة للمفاوضات التي أجريت تقرر تعيين جانجي القائد العام لشمال غرب الصين حاكما عاما لتركستان الشرقية، يعاونه ثلاثة من التركستانيين هم: أحمد جان، وبرهان شهيدي، (نائبا للحاكم) وليومون شون سكيرتيرا للحاكم العام، وكانت مهمة هؤلاء الأربعة هي العمل علىإجراء الانتخابات التي نصت عليها المعاهدة، وتهامس الناس، إن الرجال الثلاثة من أعوان الحلفاء، لقد باعوا انفسهم للشيطان، ولكن الدعاية حاولت أن تبعد عنهم هذه الشبهات، وحاولت تصويرهم بصورة الأبطال، القوميين الذين لعبوا أدوارا من أجل تحرير البلاد أبان محنتها، كما ساعدوا على مد الثوار بالسلاح مما جعل الثورة الشعبية تحقق أهداقها على صورة رائعة، ومع ذلك فقد أخذت البلاد تستعد للانتخابات، الآن رأي الشعب هو الرأي الحاسم، ولن يستطيع أحد أن يخدع هؤلاء الثور المحاربين الذين ظلوا سنوات طويلة يتصدون للعدو، ويحطمون من محاولاته المستمرة للقضاء على استقلال البلاد، وفي هذه الأثناء فوجئنا بالدولة الحليفة تحاول السيطرة على المقاطعات الثلاث: إيلي، وآلتاي وتشوشك، كن الرئيشس علي خان وقف وأعلن على الملأ:

-     إننا لن نفرط في ذرة من تراب الوطن، ولن نسمح بالتدخل في الولايات الثلاث.. ونحن على استعداد لاستئناف القتال ضدهم إذا لم ينسحبوا.

- وغرقت البلاد في جو من الدسائس والفتن.

تمتم الجنرال عثمان باتور.

 فرد الرئيس عي خان قائلا:

- العالم مشغول عنا بتضميد جراح البشرية.

- انتهت حربنا ولم تنته..

اقترب الرئيس علي خان من عثمان باتور وقال:

-                 يا جنرال ! عد إلى قواتك.. واستعد.

أدركت ما يعتمل في الأفق السياسي من تحركات مريبة، فقلت لزوجتي:

-                 نجمة الليل! لقد حان الرحيل..

-                 إلى أورومجي...

-                 لا أريد الذهاب إليها، إن ذكرياتها تؤلمني.

-                 إذن إلى قومول..

-                 وقومول هي الأخرى فيها افتراءات قديمة قد تجلب لي ولك المتاعب.

-                 أتوافقين على الذهاب إلى كاشغر؟

-                 لا بأس.

-                 وهناك ستعيشين مع الطفل، أما أنا فذاهب إلى الجبال.

-                 الأيام المريرة تعود، والصديق يريد الثمن.

وكان الرئيس علي خان يجلس في قصر الرئاسة مع زوجه وذويه والليل خارج القصر ساكن هادئ، والناس في بيوتهم يسمرون ويتحدثون عن الانتخابات المقبلة والعهد الجديد، وتدهم القصر فئة من الشبيبة حاملين السلاح، تعلن عيونهم وملامحهم عن الغدر والخيانة:

-                 ماذا تريدون؟

-                 قم معنا.

-                 أنسيتم أنني الرئيس؟

-                 نحن نعرف، وليس أمامنا من وسيلة سوى إطلاق الرصاص إذا لم ترافقنا.

اختفى الشيخ علي خان، وأخذ الناس يتهامسون، لماذا لم يعد يظهر كالعهد به في صلاة الجمعة، ولماذا لم يعد يلتق برفاق السلاح الذين قادهم بالأمس وأحرز معهم الانتصارات البارعة ضد الصينيين، وكثر اللغط والجدل حول مصير الشيخ علي، لكن بيانا رسميا يصدر عن الحكومة تعلن فيه أن الحاكم الرئيس علي خان سافر للاستشفاء...

وفؤجئ الناس بالاتخبارات من جديد، لقد اندسوا في الشوارع والمزارع والمصانع، وأخذوا يعتقلون المناوئين في الولايات الثلاثة التي طمع فيها الصديق، وصدر قرار بتعيين أحمد جان التركستاني المعروف رئيسا على المقاطعات الثلاثة: إيلي وآلتاي وتشوشك.

وعندما قدمت القوات لاحتلال آلتاي برز الجنرال عثمان باتور برجاله وتصدى للقوات وبدأت الحرب..

كان العدو أكثر عدد وعدة، ومن ثم لجأ الجنرال عثمان باتور إلى منطقة غوجن واعتصم بالجبال المنيعة هناك.

عقب المعركة جاء منصور درغا يعرج، نظرت إليه وبكيت:

-                 ماذا جرى؟

قال في سخرية مرة:

-     في كل مرة أفقد شيئا عزيزا علي، يوما ما فقدت ذراعي، ومرة فقد زوجتي الحبيبة، في أيام السلام القصيرة تزوجت أرملة في آلتاي، ترى ما مصيرها الآن؟ وقد أصيبت ساقي اليمنى برصاصة، مع أني ما زلت أحمل السلاح الذي عاونونا به... ما هذا العجب الذي نراه في دنيانا الغريبة؟

وارتمى إلى جواري يلهث، أخذ الماء وكأنه لم يشرب منذ أسبوع، ثم انحنى على ضمادة ساقه وأخذ يعيد إحكامه وينقي عنها الغبار والطين..

ثم تطلع إلى الأفق الدامي عند غروب الشمس وقال:

-                 كلما نظرت إلى الأصيل تذكرت الآخرة، الأصيل يوحي إلي بالنهاية...

-                 لم هذه الأحزان يا منصور؟

-                 تستطيع أن تطلق علي من الآن فصاعدا المهزوم..

ثم أخذ يغني أغنية شعبية تركستانية قديمة:

الليل يا حبيبتي مرصع بالنجوم..

ينوح كالأسير في غياهب الوجوم..

كوجه غانية..

سوداء قاتمة..

من ساحل العبيد..

حليها رخيصة..

لكنها تضئ..

عيناي لم تزالا تهمسان بالنشيد...

بوجهك المضئ..

يا حبيبتي لكنما لقاؤنا محال..

فرحتي ترف في مجاهل التلال..

 
 

قلت مازحا:

-                 إن حبيبتك أرملة قد تخطت الأربعين، ولا شك أنها تغط في نوم عميق الآن..

التفت إلي منصور في أسى وقال:

-     ألم أقل لك؟ ها قد فعلوها وفصلوا الولايات الثلاث وهم الآن يعيشون في باقي الولايات، يبعثرون نفوذهم في كاشغر وأورومجي، وقنصلياتهم تشتري الرجال، وتخطف الرجال، لقد اشتروا حتى الذهب والفضة فارتفعت الأسعار... أتعلم ذلك؟ إنهم يفسدون الاقتصاد والسياسة والفكر والدين، وذمم المواطنين أيضا.

كانت المنطقة التي لجأنا إليها حصينة حقا، فلم يكن أحد بقادر على مداهمتنا فيها لوعورة مسالكها، وكل مجموعة دفعها العدو إلينا استطعنا أن نبيدها إبادة تامة، وأصبحت لنا اليد الطولى في تنسيق العمليات الجربية، وتنظيم حرب العصابات، وكانت سلطة العدو تحاول جاهدة أن تصدر البيانات الكاذبة.. عثمان باتور قاد عملية بارعة، وزحفنا حشودا ضخمة صوب آلتاي، واستطعنا احتلالها وطردنا العدو وفر أذنابه والخونة، وفرض الجنرال باتور سيطرته على المقاطعة مرة ثانية..

ويومها ابتسم منصور درغا وقال:

-                 هذا حظ أرملتي الحسناء، أوشكت أن تترمل مرتين.

ودخلنا المدينة وجرت النسوة المحجبات يستقبلن الجنرال بالأغاني وخرج الرجال بالهتافات المدوية، والأطفال بالأناشيد الحماسية، كلما حققنا شيئا من النصر يظهر وجه بلادنا الحقيقي تغمره الفرحة تضئ المآذن وينطلق منها التكبير والتسبيح لله.

أشعر أن آباءنا الأقدمين الفارابي والبيروني والبخاري وابن سينا أشعر وكأنهم يلبسون عمائمهم ويقفون على مشارف الطرق يحيون جهادنا، ويرحبون بمقدمنا..

أشعر أن المجد القديم كله يبعث من جديد، فيمتلئ بالثقة وتفيض روحي بالأمل...